أهل مصر استخفّوا بمحمد بن أبي بكر لكونه شابا ابن ستّ وعشرين سنة أو نحو ذلك ، عزم على ردّ مصر إلى قيس بن سعد.
ثمّ إنّه ولّى عليها الأشتر النّخعيّ ، فلمّا بلغ معاوية تولية الأشتر ديار مصر ، عظم ذلك عليه ؛ لأنّه كان طمع في استنزاعها من يد محمد بن أبي بكر ، وعلم أنّ الأشتر سيمنعها منه لحزمه وشجاعته. فلمّا سار الأشتر إليها وانتهى إلى القلزم ، استقبله الجايسار ـ وهو مقدّم على الخراج ـ فقدّم إليه طعاما ، وسقاه شرابا من عسل ، فمات منه. فلما بلغ ذلك معاوية وأهل الشام قالوا : إنّ لله جندا من عسل. وقيل : إن معاوية كان تقدّم إلى هذا الرجل في أن يحتال على الأشتر ليقتله ففعل ذلك ، ذكره ابن جرير.
فلمّا بلغ عليا وفاة الأشتر تأسّف عليه لشجاعته ، وكتب إلى محمد بن أبي بكر باستقراره واستمراره بديار مصر ، وكان ضعف جأشه مع ما فيه من الخلاف عليه من العثمانيّة الذين ببلد خربتا ، وقد كانوا استفحل أمرهم ؛ وكان أهل الشام حين انقضت الحكومة سلّموا على معاوية بالخلافة ، وقوي أمرهم جدّا ، فعند ذلك جمع معاوية أمراءه ، واستشارهم في السير إلى مصر ، فاستجابوا له ؛ وعيّن نيابتها لعمرو بن العاص إذا فتحها ، ففرح بذلك عمرو ، فكتب معاوية إلى مسلمة بن مخلّد ومعاوية بن خديج ـ وهما رؤساء العثمانية ببلاد مصر ـ يخبرهم بقدوم الجيش إليهم سريعا ، فأجابوه ، فجهّز معاوية عمرو بن العاص في ستة آلاف ، فسار إليها ، واجتمعت عليه العثمانيّة وهم عشرة آلاف. فكتب عمرو إلى محمد بن أبي بكر : أن تنحّ عنّي بدمك ، فإنّي لا أحبّ أن يصيبك منّي ظفر ، وإنّ الناس قد اجتمعوا بهذه البلاد على خلافك. فأغلظ محمد بن أبي بكر لعمرو في الجواب ، وركب في ألفي فارس من المصريّين ، فأقبل عليه الشاميّون ، فأحاطوا به من كلّ جانب ، وتفرّق عنه المصريون ، وهرب هو فاختفى في خربة ، ودخل عمرو بن العاص فسطاط مصر ، ثمّ دلّ على محمد بن أبي بكر ، فجيء به ؛ وقد كاد يموت عطشا ، فقدّمه معاوية بن حديج فقتله ، ثمّ جعله في جيفة حمار ، فأحرقه بالنار ؛ وذلك في صفر سنة ثمان وثلاثين.
وكتب عمرو بن العاص إلى معاوية يخبره بما كان من الأمر ، وأنّ الله قد فتح عليه بلاد مصر ، فأقام عمرو أميرا بمصر إلى أن مات بها ليلة عيد الفطر سنة ثلاث وأربعين على المشهور ، ودفن بالمقطّم ، من ناحية الفجّ ؛ وكان طريق الناس يومئذ إلى الحجاز ، فأحبّ أن يدعو له من مرّ به ؛ وهو أوّل أمير مات بمصر.
وفي ذلك يقول عبد الله بن الزّبير :
ألم تر أنّ الدهر أخنت ريوبه |
|
على عمرو السّهميّ تجبى له مصر |