ولا يدع فحفظ مناقب الآباء والاعتداد بآثارهم الصالحة من أكبر العوامل المثيرة لعزة النفس ويقظة الوجدان وسمو الغاية ، وقديما كانت العرب تفاخر بأمجادها وآبائها في انديتها واسواقها ومجتمعاتها ومواسم حجها ، قال تعالى : (فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً).
وكل شعب يحمل أمانة التاريخ ، وتجري في عروقه مناعة دم شريف ، وتدور في رأسه ذكريات الماضي ، لا يطمئن إلى حياة لا تصله بماضيه : «فإن من فاته حسب نفسه لا ينفعه حسب أبيه».
والتاريخ كما قلنا هو سجل الحياة ، والصورة الفنية للعصور الغوابر ، ومحقق آمال المنبت الحائر ، وقد طمحت به النفس إلى ذرى المجد وسنام المفاخر ، وحفزته غريزته البشرية إلى معرفة تراثه من الأكابر ، ومشاهدة معرض الوجود الحاشر.
منه يستلهم وحي النبوغ ، ومن أرواح أبنائه وآثارهم يستملي روحا تسمو به إلى أبعد شأو كتب له في الحياة ، بعزيمة أمضى من القضاء ، وصدر أوسع من الفضاء ، وشجاعة في الله يكلؤها الحجى.
وأحر ، بمن عرف الماضي ، وأفنى القرون ، وساير ركب الزمان ، ان تسمو نفسه وتتهذب مداركه ، وتلطف شمائله ، وتتحرك مشاعره ، وتحفزه المؤثرات الحرة إلى مطمح الإنسانية ومثلها العالية : (وان لا يكون كمستمع اللدم يسمع الناعي ويحضر الباكي ثم لا يعتبر ، وإنما البصير من سمع فتفكر ، ونظر بأبصر ، وانتفع بالعبر ، ثم سلك جددا واضحا يتجنب فيه الصرعة في المهاوي ، والضلال في المغاوي).
فإن التاريخ هو الشاهد العدل ، والرقيب العتيد ، والمراقب المشرف على أعمال الأمم ومجرياتها لا تفوته صغيرة ولا كبيرة ، ولا يترك حسنة ولا سيئة إلا أتى عليها ونقلها ، يرمي فيقرطس ، ويضرب المحز ويقطع المفصل.