والمسعودي وابن خلدون في تأريخه دون المقدمة واضرابهم ، وجدنا بتلك المؤلفات روعة العلم وجلاله ، ولمسنا روح البحث والتحقيق والاستقصاء والانقطاع للعمل والشهوة العلمية لذاتها بارزة وماثلة.
ولكنها لم تتعد دائرة البحث عن الحالة السياسية ، ووصف حركات التجاذب والتغالب بين المتوافدين من الأمراء والملوك ، وما يتبع ذلك من نزوات ونزعات ، ولذا جاءت تلك المؤلفات غير كاملة بالمعنى المراد من التأريخ لأنهم لم يفوا المشكلة التاريخية حقها.
ويمتاز قدماء المؤرخين بسعة الإطلاع والإحاطة بالجزئيات والفهم للحقائق والقدرة على التعبير : «ولكنهم لم يقدروا على ربط الحوادث برباط جامع لها». وقد طوع لهم إدراك الجزئيات الإحاطة بشتى الحوادث وما جرى في السنين من الأحداث ، فجمعوا في مؤلفاتهم الكثير الطيب ممزوجا بغيره من دون نقد وتمحيص أو تعليل واستنتاج ، فكان من جراء ذلك أن برزت الحقائق محاطة بإطار من الخفاء يعوزها النضوج والاكتمال ، كأنها منجم الذهب يتوقف الحصول عليه على إزالة ما يخالطه من العناصر المتنوعة.
واستمر الحال على ذلك آمادا متطاولة ، وطرق التأليف في هذا الفن مشابهة حتى ظهر إمام المؤرخين عبد الرحمن بن خلدون رحمه الله في القرن الثامن الهجري فعني بالتأريخ عناية خاصة واعتبره جزءا من الفلسفة ولكن هذا الجزء ينبغي ألا يعنى بشيء سوى تقرير الحوادث والعمل على كشف ما بينها من اقتران الشيء بسببه على أساس النقد البريء من التشيع والهوى.
وأكبر قواعد البحث التاريخي هي أن الحوادث يرتبط بعضها ببعض ارتباط العلة بالمعلول (١).
وقد أطال في مقدمته الكلام على هذه المباحث ، وأثبت فيها القوانين
__________________
(١) راجع تاريخ الفلسفة في الإسلام ومقدمة ابن خلدون.