في بلاد المسلمين ، لأنه أراد تغيير مسارها الطبيعي إلى حيث الجدليات العقيمة ، والمخاضات المهلكة ، والغياهب المتلفة التي شتتت أفكار المسلمين ، وأوقعت بينهم العداوة والبغضاء. فبدل أن ينصرف جميع طلبة العلم إلى تعلم العلوم الشرعية ، والعربية ، والتاريخية ، وعلوم الطب ، والهندسة وما إلى ذلك من علوم نافعة تقيم الحضارة ، وترفع من شأن المجتمعات ، راح الكثير منهم يتخبطون في دراسة نظريات أرسطو ، وأفلاطون المظلمة التي تفسد العقائد ، وتضل الأذهان.
وقد حكي أن ملوك الروم لما دخلوا في النصرانية جمعوا كتب الفلاسفة من نواحي ممالكهم ، ووضعوها في مخازن سرية موصدة كي لا يطلع عليها أحد من الناس ، خوفا من فساد المعتقد ، وذهاب الدين ، لكن يحيى بن خالد البرمكي الفارسي الزنديق أحد وزراء العباسيين طلب من ملوك الروم تلك الكتب فبذلوها إليه ، وإلى المأمون من بعده ، لا يريدون بذلك إلا إضلال المسلمين ، وتحويلهم عن دينهم القويم.
أما العامل الثاني : فيمكن تفصيل الكلام فيه من خلال تقسيمه إلى عدة نقاط ، وهي : نوائب التتار ، وقواصم الصليبيين ، وقوارع الباطنيين ، ومهالك العابثين المفسدين ، وتبدل دول المسلمين ، وحوالك الزمان.
(١) نوائب التتار :
لم ترزأ أمة من أمم الأرض قاطبة بمثل تلك الرّزيئة المهولة التي فجع بها المسلمون عند دخول التتار إلى بلادهم ، فقد أهلك هؤلاء الكفرة الحرث والنسل ، وعم فسادهم السهل والوعل ، وجعلوا مدن الإسلام المشرقية خرابا يبابا ، بعد أن كانت آمنة مطمئنة ، وعامرة مخضرة ، فدمروا عمرانها ، ونهبوا أموالها وثرواتها ، وقتلوا رجالها ، واسترقوا صبيانها ، واستحيوا نساءها ، وجعلوها كأن لم تكن.
وكان ياقوت الحموي ممن عاين هذه الفاجعة المروّعة ، وشاهد