لم أفارقه ، ولكن سمعته يقول : من كذب عليّ فليتبوأ مقعده من النار» (١).
لذا سار أئمة الهدى في تبليغهم طريقا عدلا وسطا ، فلم يحدثوا إلا بما اطمأنت إلى صحته نفوسهم ، ولم يجرءوا على كتم العلم ، حتى إن أبا هريرة رضي الله عنه قال : «لو وضعتم الصّمصامة (٢) على هذه ـ وأشار إلى قفاه ـ ثم ظننت أني أنفذ كلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل أن تجيزوا عليّ لأنفذتها» (٣).
السبب الرابع : بناء الأمصار والمدن : لا ريب أن ينبوع الحضارة الزاهرة ، والنهضة العامرة ، يتفجر حيث الأمن ، والجماعة ، والاستقرار ، وهذه العناصر كانت تتفرد بالاتصاف بها المدن ، وحواضر البلدان.
فقد قام الراشدون المهديون رضوان الله تعالى عليهم وكذلك الخلفاء ، والملوك ، والسلاطين من بعدهم ، ببناء الأمصار ، والمدن في مختلف أصقاع الأرض ، لتكون مركزا صالحا لتجمع الجند ، وانطلاقهم للفتوحات ، ولتكون أيضا مجمعا للناس ، ومأمنا لهم من أهل العبث والفساد.
وعندما يأمن الناس من الشرور ، ويكفون مؤونة النفير لرد العدوان ، يتطلعون إلى الغذاء الروحي العظيم الذي هو العلم ، فكانت المدن والأمصار موئلا للعلوم ، ومنارا للفنون ، وكانت كثرتها باعثة على النهضة العلمية العريقة التي تميزت بها الأمة الإسلامية.
ومن أهم تلك المدن والأمصار : مكة ، والمدينة ، والبصرة ، والكوفة ، وبغداد ، ودمشق ، والفسطاط ، والقاهرة ، والقيروان ، وفاس ، وقرطبة ،
__________________
(١) أخرجه البخاري في صحيحه ، في كتاب العلم ، باب ٣٨ ، حديث ٢.
(٢) هي السيف الصارم الذي لا ينثني ، وقيل : الذي له حد واحد. فتح الباري ١ / ١٦١.
(٣) أخرجه الدارمي في سننه ، في المقدمة ، باب ٤٦ ، حديث ٤ ؛ وذكره البخاري في صحيحه تعليقا بصيغة الجزم ، في كتاب العلم ، باب ١٠.