فهمت ما قررنا ظهر لك أن الكلام هنا محتاج لهذا التحقيق ، وقد اتضح بما ذكر بحمد الله تعالى ، والله الموفق بمنه وكرمه ، ثم أشار إلى أن وجه الشبه قد يقتضى تمام التشبيه أو حسنه انتزاعه من مجموع أشياء بحيث يكون هيئة مركبة ترعى فيها جميع تلك الأشياء فيقع الخطأ من السامع بانتزاعه إياه فى اعتقاده من أقل من مجموع تلك الأشياء أو من المتكلم بأن يصرح به مأخوذا من بعض تلك الأشياء فقط فقال :
دقيقة فى الوجه المركب
(واعلم أنه) أى : أن وجه الشبه (قد ينتزع) عند السامع أو المتكلم (من متعدد) ، ولكن لا يكفى انتزاعه من ذلك المتعدد فى حصول الغرض الذى يجب قصده ليحصل المعنى الذى ينبغى أن يراد أو الذى أريد (فيقع الخطأ) من المتكلم حيث لم يأت بما يجب أو من السامع حيث لم يتحقق ما قصده المتكلم مما يجب ، وذلك (لوجوب انتزاعه من أكثر) من ذلك المتعدد ؛ لأن الاقتصار على ذلك المتعدد فى الأخذ يبطل به المعنى الذى يجب أن يراد أو أريد ، وذلك (كما إذا انتزع) وجه الشبه (من الشطر الأول) أى : انتزع مما اشتمل عليه الشطر الأول (من قوله :
كما أبرقت قوما عطاشا غمامة |
فلما رأوها أقشعت وتجلت) (١) |
أى : كإبراق غمامة لقوم أى : تعرضها لهم فما فى كما مصدرية وقوما منصوب بإسقاط الخافض يقال : أبرقت لى فلانة ، إذا تزينت وتعرضت ، وأما أبرق بمعنى صار ذا برق أو أبرق بسيفه إذا ألمع به أو غير ذلك ، فلا يناسب هنا شيء منها ، فلما رأوها أقشعت أى : اضمحلت وذهبت ، وهو معنى تجلت يقال : قشعت الريح السحاب فأقشع أى : صار ذا قشع أو ذهاب أو طاوع فيه ، فالشاعر شبه الحالة المذكورة فيما قبل هذا البيت وهى كون الشاعر أو كون من هو فى وصفه ظهر له شيء هو فى غاية الحاجة إلى ما فيه ، وذلك الظاهر هو بصفة الإطماع فى حصول المراد ، وبنفس ظهور ذلك الشيء وإطماعه انعدم وذهب ذهابا أوجب الإياس مما رجى منه بحالة قوم
__________________
(١) أورده الطيبى فى شرحه على مشكاة المصابيح بتحقيق د. عبد الحميد هنداوي ص (١ / ١٠٧) ، وأورده القزوينى فى الإيضاح ص (٣٥٤).