(وَالسَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ) وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ)(١) والأيدي جمع يد ، واليد لها معنيان قريب وهو الجارحة المعلومة ، وبعيد وهو القدرة التي إطلاق اليد عليها مجاز كما تقدم في بابه ، والمراد بها هنا المعنى البعيد الذي هو القوة والقدرة ، والقرينة استحالة الجارحة عليه تعالى ، وقد تقدم ما يفهم منه وجه خفائها ؛ فتكون تورية ، وإن كانت مجازا ، وقد قرنت بما يلائم المعنى القريب الذي هو الجارحة وهو البناء ؛ لأنه إنما يعهد بالجارحة ، والمعهود بالقوة الإيجاد والخلق ، فقد رشح فيها معنى التورية ، وأصلها الذي هو الخفاء بوجود ما يبعد عن المراد مع خفاء القرينة ، وهذا ـ أعني كون اليد أطلقت على معناها المجازي البعيد بقرينة خفية فكانت تورية ـ مبني على ما اشتهر بين أهل الظاهر من المفسرين الذين يقتصرون على ما يبدو ، ولم يظهر لهم هنا للأيدي وللاستواء إلا المعنى البعيد ، وأما عند من يوسم بالتحقيق ممن يمارس مقتضى تراكيب البيان ، فالكلام تمثيل على سبيل الكناية أو الاستعارة ، وهو أن مجموع" بنيناها بأيد" نقل عن أصله على طريق التشبيه ، وأصله وضع لبنة وما يشبهها على أخرى بقوة الأيدي إلى الإيجاد بالقوة ؛ لأن النفس بالمحسوس أعرف ، أو على طريق الكناية بناء على أن التمثيل يجري فيها ، فعبر بمجموع اللفظ التركيبى عن معنى الإيجاد بغاية القوة ، وفي كليهما دلالة وتوقيف على عظمة قدرته وكنه جلاله الذي يمكن أن يدرك ، وهو الكنه الإجمالي المشتمل على أنه في النهاية في نفس الأمر ، فلا يتمحل لمفرد من مفردات هذا التركيب حقيقة ولا مجاز ، لما تقدم أن لفظ التمثيل ينقل إلى المعنى كما هو في المنقول عنه ، إن كان حقيقة في أصله يبقى كذلك ، وإن كان مجازا فكذلك ، فكأن البناء بالأيدي جعل هنا مرادفا لنهاية القوة في البناء ، ونهاية العظمة في تركيب الشيء ، وكذا" على العرش استوى" يجعل تمثيلا بالتشبيه أو بالكناية للدلالة على ملكه كل شيء ، كأنه جعل مرادفا للملك من غير أن يتمحل حقيقة أو مجاز لمفرد من المفردات ، بل التجوز باعتبار التركيب ، فإن قلت : فعلى هذا الذي جعل من التحقيق ، هل يصح أن يكون التركيب تورية أو لا؟ قلت : لا مانع من ذلك مع خفاء القرينة ؛ لأنهم لم يشترطوا في التورية إفراد اللفظ فافهم.
__________________
(١) الذاريات : ٤٧.