قد تقدم ، وهو أن غير الظاهر لا بد أن يكون بحيث لا يدرك كون الثاني من الأول إلا بتأمل ، كما يتضح في الأمثلة بعد ، والذوق السليم شاهد بذلك ، وأما هذا المثال فوجه الخفاء أن الأول سوى بين مفهوم ذي العمامة والخمار في مصدوقهما ، والثاني شبه مفهوم من في كفه خضاب بمن في كفه قناة باعتبار مصدوقهما فيتبادر ـ قبل التأمل ـ أن المعنيين لما اختلف المفهوم فيهما مختلفين بخلاف ما تقدم ، فالمعنى ظاهر الاتحاد ، هذا والحق أن هذا المثال قريب من الظاهر بل ينبغي أن يجعل منه ، والمثال الذي فيه التشابه بلا ظهور كقوله :
لقد زادني حبا لنفسي أنني |
بغيض إلى كل امرئ غير طائل (١) |
وقوله :
وإذا أتتك مذمتي من ناقص |
فهي الشهادة لي بأني كامل (٢) |
فمعنى البيت الأول أن بغض ما ليس بطائل أي : لا فائدة فيه يزيدني حبا في نفسي ؛ لأني أعلم بذلك أنه ما أبغضني إلا لكونه لم يناسب ما فيه من المعاني والأخلاق ما في ، ومعنى الثاني أنه إذا ذمني ناقص ذميم في نفسه كان ذمه شهادة بكمالي ، ومعلوم أن البغض يستلزم عادة ذم المبغوض ، وحب الإنسان نفسه يستلزم إدراك كمالها فالمعنيان مشتبهان في أمر يعمهما ، وإن اختلف مفهومهما ، وذلك الذي يعمهما هو أن مباعدة الأرذال وإذايتهم للإنسان تفيد رفعته ، لكن لخفاء أخذ أحدهما من الآخر ؛ لأن التماثل إنما هو باعتبار هذا الأمر العام الذي يبعد استشعار الأخص منه ، فنزلا فيه بمنزلة الأخصين باعتبار الجنس الأعلى جعل الثاني أي : أخذه من خلاف الظاهر ، والذوق السليم شاهد بذلك فتأمل.
المنقول
ولما كان غير الظاهر مشعرا بالحاجة إلى التأمل صح فيه نقل المعنى من مكان إلى آخر ، إذ غاية ما فيه زيادة الخفاء ولا ينافيه ، فيصح أن ينقل المعنى من نسيب أي : وصف بالجمال يقال نسب بكسر سين المضارع ، إذا شبب بامرأة ذكر منها ما يلائم
__________________
(١) البيت للطرماح ، فى الإيضاح ص (٣٤٦).
(٢) البيت لأبى الطيب ، فى الإيضاح ص (٣٤٦).