وروى أنه أطلقه من السجن لما سمع الأبيات ، وهذا البيت هو الأشمل ، الثاني وهو يفيد أنه أقام الممدوح مقام جميع العالم لجمعه جميع أوصافه ، فهو أشمل مما في بيت البحتري لاختصاصه بإقامة الممدوحين مقام الناس في الرضا والغضب ، وهو أفاد إقامة واحد مقام جميع الناس في كل شيء ، ولا يخفي خفاء الأخذ بينهما ، فإنه لو لا اعتبار اللوازم الخفية ما فهم انتشاء الأول من الثاني ـ كما قررنا ـ ولم يتعرض للعكس وهو أن يكون الأول أشمل مع إمكانه ، وكأنه لعدم وجدان مثاله.
القلب
(ومنه) أي : ومن غير الظاهر (القلب وهو) أي : القلب (أن يكون معنى) البيت (الثاني نقيض معنى) البيت (الأول) كأن يقرر البيت الأول حب اللوم في المحبوب لعلة ، ويقرر الثاني أنه مذموم لعلة أخرى ، فيكون التناقض والتنافي بين البيتين بحسب الظاهر ، وإن كانت العلة تنفي التناقض ؛ لأنها مسلمة من الشخصين فيكون الكلامان غير كذب معا ، ومعلوم أن من كانت عنده العلة الأولى صح الأول باعتباره ، ومن كانت عنده الثانية صح الكلام باعتباره ؛ فالتناقض في ظاهر اللفظين ، والالتئام باعتبار العلل والمحال ، وذلك (كقوله : أجد الملامة) (١) أي : اللوم والإنكار على (في هواك لذيذة) أي : أجد لذلك اللوم فيك لذة ، لتناهى حبي فيك ، حتى صرت أتلذذ بمطلق ذكرك على أي وجه كان ، وإلى هذا أشار بقوله (حبا) أي : إنما وجدتها لذيذة لأجل حبي (لذكرك) على أي وجه كان (فليلمني اللوم) جمع لائم ، وهذا هو الأول المنقوض (وقول أبي الطيب :
أأحبه وأحب فيه ملامة |
إن الملامة فيه من أعدائه) (٢) |
وهذا هو الثاني الناقض للأول ، وإنما كان اللوم فيه من العدو ؛ لأن الحب يتضمن كمال المحبوب ورفعته ، واللوم على أمر فيه تعظيم لأحد ، وكمال لا يكون إلا من عدوه المبغض له ، وإن كان يمكن أن يكون اللوم رفقا بالملوم وإبقاء عليه ، لكنه خلاف الأصل بل لا يسمى في الحقيقة لوما ، بل عزاء وحملا على التصبر بالتقصير ،
__________________
(١) البيت لأبى الشيص ، أورده الجرجانى فى الإشارات ص (٣١٤) ، والإيضاح (٣٤٨).
(٢) البيت لأبى الطيب فى ديوانه (١ / ١) ، والإشارات ص (٣١٤) ، وشرح عقود الجمان (٢ / ١٨٠).