(وأحسنه) أي : وأحسن الانتهاء (ما آذن بانتهاء الكلام) أي : ما أعلم بأن الكلام الذي جعل ذلك آخره قد انتهى ، والإشارة إلى الانتهاء ، إما بأن يشتمل ما جعله آخرا على ما يدل على الختم ؛ كلفظ الختم ، ولفظ الانتهاء ، ولفظ الكمال وشبه ذلك ، وإما بأن يكون مدلوله مفيدا عرفا أنه لا يؤتي بشيء بعده فلا يبقي للنفس تشوف لغيره وراء ذلك (كقوله) أي : كقول المعرى (بقيت بقاء الدهر يا كهف أهله) (١) أي : يا كهفا يأوي إلى عزه أهله ، والمراد بأهله جنسه بدليل ما بعده (وهذا دعاء للبرية شامل) يعنى لما كان بقاؤك سببا لنظام البرية ، وحسن حالهم برفع الخلاف فيما بينهم ، ودفع ظلم بعضهم بعضا ، وتمكن كل واحد ببلوغ مصالحه كان الدعاء ببقائك دعاء بنفع العالم ، ونعنى بالعالم الناس وما يتعلق بهم ، وإنما آذن هذا الدعاء بانتهاء الكلام ؛ لأنه لا يبقى عند النفس ما يخاطب به هذا المخاطب بعد هذا الدعاء ؛ ولأن العادة جرت بالختم بالدعاء ومثل ذلك قوله :
فلا حطت لك الهيجاء سرجا |
ولا ذاقت لك الدنيا فراقا (٢) |
وهذه المواضع الثلاثة يعنى الابتداء والتخلص والاختتام مما يبالغ المتأخرون في التأنق فيها ، لا سيما التخلص لدلالته على براعة الشاعر أو الكاتب ، وأما المتقدمون فقد قلت عنايتهم بذلك كما شهدت بذلك قصائد كل فريق.
(وجميع فواتح السور وخواتمها واردة على أحسن الوجوه وأكملها) يعنى أن فواتح السور القرآنية وخواتمها واردة على أكمل ما ينبغي من البلاغة وأعلى ما يراعى من البراعة ، فتجد فيها من الفنون أي : المعاني المختلفة ، المطابق كل منها لما نزل له ، المفيد لأكمل ما ينبغي فيه ما لا ينحصر ، وتجد فيها من أنواع الإشارة أي : اللطائف المشار إليها مما يناسب كل منها ما نزل لأجله ، ومن خوطب به ما لا يقدر قدره ؛ فتجد في الفواتح تحميدات وتنزيهات لعلام الغيوب تعجز جميع العقول عن استقصاء مذاق حسنها وإيجازها وطباقها كما في قوله تعالى : (الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ
__________________
(١) البيت للمعرى ، شرح عقود الجمان (٢ / ١٩٩).
(٢) البيت فى الإيضاح ص (٣٦٦).