الحاج طاشتكين ، وصل بعسكر كثير وسلاح وعدد من المنجنيقات والنّفّاطين وغير ذلك ، فجمع الأمير مكثر الشرف والعرب على قدر وسعه لضيق الوقت.
ولم يحج مكة إلا القليل ، وبات الحاج بعرفة ، ولم يبت بمزدلفة ، ولم يرم إلا جمرة العقبة، ولم ينزل منى ، ولا بات بها إلا ليلة ، ونزل الأبطح ، وقاتل فى نزوله الأبطح فى بقية يوم النحر ، وفى اليوم الثانى والثالث ، وقوى القتال على أهل مكة ، وأحرقت من دورها عدة دور ، ونهبت الدور التى على أطراف البلد من ناحية المعلاة.
وفى اليوم الرابع ، خرج مكثر من مكة ، بعد أن سلّم الحصن ـ يعنى الذى بناه على أبى قبيس ـ لأمير الحاج ، وسلّمت مكة إلى الأمير قاسم بن مهنا أمير المدينة ، وكان وصل صحبة أمير الحاج ، لأنه كان سافر فى هذه السنة إلى [.....](١) وإلى العراق ، وأقامت مكة بيد الأمير قاسم ثلاثة أيام ، ثم سلّمت للأمير داود ، بعد أن أخذ عليه ألا يغيّر شيئا مما شرط عليه ، من إسقاط المكوس وغير ذلك من الأرفاق ، وأمر أمير الحاج بهدم الحصن المشار إليه. انتهى بالمعنى.
وذكر ابن الأثير شيئا من خبر الفتنة التى بين أمير الحاج ومكثر المشار إليهما ، لأنه قال فى أخبار سنة إحدى وسبعين وخمسمائة : فى هذه السنة فى ذى الحجة ، كان بمكة حرب شديدة بين أمير الحاج طاشتكين ، وبين الأمير مكثر بن عيسى أمير مكة ، وكان الخليفة قد أمر أمير الحاج بعزل مكثر وإقامة داود مقامه ، وسبب ذلك ، أنه كان قد بنى قلعة على جبل أبى قبيس ، فلما سار الحاج من عرفات ، لم يبيتوا بالمزدلفة ، وإنما اجتازوا بها ، ولم يرموا الجمار ، إنما رمى بعضهم وهو سائر ، ونزلوا الأبطح ، فخرج إليهم ناس من أهل مكة فحاربوهم ، وقتل من الفريقين جماعة ، وصاح الناس : الفرار إلى مكة ، وهجموا عليها ، فهرب أمير مكة مكثر ، فصعد إلى القلعة التى بناها على جبل أبى قبيس ، فحصروه بها ، ففارقها وسار عن مكة ، وولى أخوه داود الإمارة بها ، ونهب كثير من الحجاج بمكة ، وأخذوا من أموال التجار المقيمين بها شيئا كثيرا ، وأحرقوا دورا كثيرة.
ومن أعجب ما جرى ، أن إنسانا زرّاقا ، ضرب دارا فيها بقارورة نفط فأحرقها ، وكانت لأيتام ، فأحرق ما فيها ، ثم أخذ قارورة أخرى ، فأتاه حجر فأصاب القارورة فكسرها ، فاحترق هو بها ، فبقى ثلاثة أيام يتعذّب بالحريق ، ثم مات.
وذكر ابن جبير فى «رحلته» شيئا من حال مكثر هذا ، فمن ذلك : أن خطيب مكة
__________________
(١) ما بين المعقوفتين بياض فى الأصل.