ففي النهي يكون بضده (١). قال سيبويه (٢) : ولو قال : ولا تطع منهم آثما ، أو لا تطع منهم كفورا ، انقلب هذا المعنى وجاز له طاعة أحدهما. وذلك ، لأنه يجعل (أو) في مثل هذا الموضع ، بمعنى (بل). فكأنه يصير التقدير ، حينئذ : ولا تطع منهم آثما ، بل لا تطع منهم كفورا. وهذا ضد المعنى.
وإنما صار هكذا ، لأنه لا يكون لعوامل معمول واحد. ألا ترى أنه لو لم يكن (أو) بمعنى (بل) لاقتضى : ولا (تطع) الأولى ، ما يقتضيه : ولا (تطع) الثانية ، وليس في الكلام إلا معمول واحد.
وإذا ثبت أنّ (أو) لأحد الشيئين ، فمن قال هذه ، أو هذه ، وهذه طالق ، طلقت الثالثة ، وثبت الخيار في الأوليين ، لأن التقدير : إحدى هاتين ، وهذه طالق. وإحدى هاتين مبهم ، فإليه التعيين. ومن قال : إن القدير : هذه ، أو هما طالق ، فإنه قد أثبت التعيين في الأولى ، وأوقع الشبهة في الأخريين.
فكان حق الكلام عنده : هذه ، أو هما طالقان ، فلما لم يقل كذلك ، ثبت أن الأمر بخلاف ما قال.
وكذلك إذا قال : أنت طالق أو غير طالق ، فمعناه : أنت إحدى هاتين ، لأنها غير مطلّقة. وكذلك ، إذا قال : أنت طالق ، واحدة ، أو لا شى. الأظهر أنه كقولك : أنت طالق أو غير طالق. والرواية الأخرى : من أنه تقع واحدة ، لأنه قيده به ، فلا يصح الرجوع عنه فله وجه. فحيث جاءت (أو) فاعتبره بلفظ أحدهما ، إلا أن يمنع مانع.
[قال أبو الفتح] : ومعنى (لا) التحقيق للأول ، والنفي عن الثاني. تقول : قام زيد لا عمرو.
وهذا كما قال : إن (لا) إنما يعطف بها بعد الإثبات ، دون النفي. لو قلت : ما قام زيد لا عمرو ، لم يصح ، إذ ليس فيه تحقيق الأول ، وإخراج الثاني عن الأول ، فلا يجوز. فإذا كان كذلك ، فقوله تعالى : (إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَلا تَسْقِي الْحَرْثَ)(٣) : لا يكون في تقدير : هي تثير الأرض. لأن هذا التقدير ، يوجب إسقاط الواو ، إذ يصير المعنى : هي تثير الأرض لا تسقي الحرث. ألا ترى أنه يقال : يقوم زيد لا يقعد ، لأنه يعطف بها بعد الإثبات ، دون النفي ، إذ [١٠٦ / ب] هو تحقيق للأول ، وإخراج للثاني عنه.
[قال أبو الفتح] : ومعنى (بل) للإضراب عن الأول ، والإثبات للثاني. تقول : قام زيد بل عمرو. ولا خلاف في أن ما بعد (بل) محقق ثابت. وإنما الخلاف فيما قبله : هل هو محقق ، أو منفي؟. إذا قلت : قام زيد بل عمرو ، فهل قيام زيد منفي ، أو مثبت؟. فجماعة يقولون بنفيه ، وجماعة لا يقولون فيه بشيء. ويقولون : (بل) لترك قصة ، إلى قصة أخرى. كقوله تعالى : (وَعُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ)(٤). (بل) هاهنا ، ترك القصة الأولى ، وأخذ
__________________
(١) مجمع البيان ١٠ : ٤١٢ ، ٤١٣ ، إذ نقل عن الشارح قوله : قال البصير النحوي : (أو) هذه للتخيير. إذا قلت : اضرب زيدا أو عمرا ، فمعناه : اضرب أحدهما ، فإذا قلت : لا تضرب زيدا أو عمرا ، فمعناه : لا تضرب أحدهما ، فيحرم عليه ضربهما".
(٢) الكتاب ٣ : ١٨٤ ، ١٨٨.
(٣) ٢ : سورة البقرة ٧١.
(٤) ١٨ : سورة الكهف ٤٨.