ميزاناً فيما بينه وبين نفسه كما فيقوله تعالىٰ : ( بَلِ الإِنسَانُ عَلَىٰ نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (١٤) ) القيامة / ١٤. ثم يشير إلى طبيعته في التمرد وتجاوز الحدود ظلماً وكفراناً كما في قوله ( إِنَّ الإِنسَانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ ) إبراهيم / ٣٤. ويعبر عنه مستفضعاً ما جبلت عليه نفسه عناداً وإصراراً وطغياناً بما قال تعالى : ( قُتِلَ الإِنسَانُ مَا أَكْفَرَهُ (١٧) ) عبس / ١٧. وحقق القرآن مع الانسان فيما يبقى له ، وما يتواجد معه ، بعد مفارقته الدنيا ووفوده على الله تعالى متحدثاً عما ينفعه فيما عمل فقال : ( وَأَن لَّيْسَ لِلإِنسَانِ إِلاَّ مَا سَعَىٰ (٣٩) ) النجم / ٣٩. أشار أنه سوف يتذكر ذلك ( يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الإِنسَانُ مَا سَعَىٰ (٥٣) ) النازعات / ٣٥. ومع كل هذا التقويم لا يترك القرآن الإنسان دون عظة وعبرة ونصح كريم :( أَيَحْسَبُ الإِنسَانُ أَن يُتْرَكَ سُدًى (٣٦) ) القيامة / ٣٦. فيهزه من الأعماق ليقف به على تجاوزه وتعديه بما يكشف عنه قوله تعالى : ( يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ مَا غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (٦) ) الانفطار / ٦. وقد يقال في جواب هذا أنه ألهمه الجواب الناجع : غرني يا رب كرمك. وهذا فضلٌ جديد يضاف للأفضال السابقة ، وهنا يتطامن هذا الطاغوت لينظر إلى أولياته في التكوين ، ليكبح من جماح نفسه ، ويخفف من غلواء جبروته فيصكه الله تعالى بقوله : ( فَلْيَنظُرِ الإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ (٥) خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ (٦) يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (٧) إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (٨) ) الطارق / ٥ ـ ٨. فإذا رجع إلى الله ، ووقف للحساب الجديد ، هنالك : ( يَقُولُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ المَفَرُّ (١٠) كَلاَّ لا وَزَرَ (١١) إِلَىٰ رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ المُسْتَقَرُّ (١٢) يُنَبَّأُ الإِنسَانُ يَوْمَئِذٍ بِمَا قَدَّمَ وَأَخَّرَ (١٣) ) القيامة / ١٠ ـ ١٣.
هنا يصطدم هذا الانسان الغر الجاهل المتعنت الضعيف بالحقيقة الهائلة الكبرى إذ يقف بين يدي أعماله وذنوبه وجهاً لوجه ، لا ستار ولا حجاب ، ولا إستقالة :( وَكُلَّ إِنسَانٍ أَلْزَمْنَاهُ طَائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَنُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ كِتَابًا يَلْقَاهُ مَنشُورًا (١٣) ) الإسراء / ١٣.
هذه المفاجأة لجنس الانسان إلا المتقين يجب أن يقف بإزائها وقفة الصامد الخبير ، فأعماله متمثلة أمامه ، وأفعاله وأقواله متجسدة في قوالبها لديه ، والشاهد هو الحاكم ، والحاكم هو الله ، وكفىٰ في ذلك شدة وروعة وترويعاً وذهولاً ، لهذا فقد حذر هذا الانسان من أهوال ذلك اليوم ومشاهده ، قال تعالىٰ : ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ