ومراتع ، فجزمت بالنية ، وامتطيت المطية ، فقطعت الروابي والوهاد ، وسلكت كل فج وواد ، حتى لقيت من الغربة عرق القربة (١) فتنورت معالم تيك الأقطار ، ودخلت المدينة والشمس في رابعة النهار ، فرأيت الناس ينشالون وهم من كل حدب ينسلون ، فقفوت أثرهم ، لأتحقق أمرهم ، فدخلوا حديقة نهرها مسلسل ، ونسيمها معلعل ، طيرها صادح غريد ، وشحرورها يترنم بأنواع التغاريد ، واكتست بالسندس أشجارها ، وتنورت من أردان (٢) الأكمام أزهارها ، وإذا فيها جم غفير ، وجمع كثير ، من المرد الملاح ، ذوي الوجوه الصباح ، من سبى بحسنه القمر ، وفتك (٢١٢ ب) بلحظه وأسر ، وأحرق بلظى خده ، وطعن بسمهري قده ، (وقتل بسيوف أجفانه المراض ، وقال له الحسن : الأمر لك فاقض ما أنت قاض ، وهم محدقون بخطيب يصدع القلوب بوعظه ، ويسلب الألباب بسحر لفظه ، له طلعة زهراء ، وعليه) (٣) عمة (٤) خضراء ، فقلت : ما الخبر! وما هذا الخطيب على المنبر؟ فقال : هذا فرع بني هاشم ذوي المفاخر والمكارم ، يصل نسبه النفيس إلى السيد إدريس ، وجده الأدنى نقطة دائرة الحسن. قد شبّ هذا السيد في القبابة (٥) ، وترعرع في سوح الغرام والكآبة ، صريع حسان ، وقتيل أجفان ، كم تلظّى فؤاده بهجير الهجر ، وكم غاص ذهنه في بحار الفكر ، يعشق المليح المائس الأعطاف ، ويهوى الجميل المعروف بالعفاف ، إلا أن هذا السيد هجيراه العفة والصيانة ، وديدنه الديانة والأمانة ، لا مطمع له إلا في النظر ، ولا تعدي له سوى الحسن بالبصر ، فصار مرجعا في هذا الفن ، (٢١٣ أ) ومعتقدا يجب فيه تحسين الظن. فقلت : ما اسمه وما نعته ورسمه؟ فقال : لا أستطيع التصريح ، وإنما أفيدك بالتلويح ، فهو مركب في
__________________
(١) العرق : ما يرشح من الجسد من ماء ، وعرق القربة : كناية عن المشقة والشدة.
(٢) في أ(اران) ولم نقف لها على وجه ، وما أثبتناه من ب ، ولعل الصواب : أردان ، جمع ردن ، وهو أصل الكم.
(٣) مطموسة في أ.
(٤) العمة : هيئة الاعتمام ، ويريد هنا : العمامة.
(٥) القبابة : لم اهتد إليها.