يسكن غني إحدى هذه القرى فلا يمكنه أن يتنعّم بغناه إذ لا يجد فيها إلا ما يجده الفقير ، إلا أن يجلب مؤنته من لندرة وغيرها. ويعلم الله أني مدّة إقامتي في تلك القرية المشؤومة لم يكن لي هم إلا بتحصيل لوازم المعيشة فكنت أجلب بعض القطاني من كمبريج ، وبعض النقل من رويستان ، والمزر (١٢٠) من لندرة في سكة الحديد ، ولكن لّما وجدته غاليا اقتصرت عن جلبه ، فاستولى عليّ ضعف المعدة ووهن في ركبي لم أحس به في عمري قط ، فإن مزر القرى رديء إذ ليس منه إلا ما ينبط بالمنبطة دون المرعى في زجاج ، وهو كالدواء سواء إلا أنه غير نافع ، وقد غشي علي مرّة في دار دكطر لي وأنا أترجم ، فأمر خادمته بأن تتداركني بكسرة خبز مشوية.
أمّا الصيف فإنّه وإن يكن غير مزهق إلا أنّه منغّص لعدم وجود البقول المرطبة فيه ، ولعوز الفاكهة كما ستعلم ولا سيّما أنّ أكثر شرب أهل الريف إنّما هو من مناقع من ماء المطر ، وأكثرها يعلوه الطحلب فإذا نشفت عمدوا إلى الآبار وهي قليلة يدّخرونها إلى الحاجة، وهي أيضا من المطر ، إلا أن الإنكليز قلّما يشربون الماء فإنّهم يستغنون عنه بالجعة. وقد مضى علينا في الصيف نحو شهرين لا نذوق فيهما شيئا من الفاكهة والخضرة إلا ما ندر ، وفي شهر نيسان انقطع عنّا المذيق الذي كنّا نشتريه لأجل القهوة ؛ لأنّهم كانوا يسقونه الخنازير ، ولا يبيعونه فاضطررنا إلى أن نتوسّل بإحدى النساء لتشفع فينا عند صاحبة البقرة في إمدادنا كل يوم بما يكفي للقهوة فقط ، ففعلت ، ثم جاءت مبشّرة لنا بقبول خالص شفاعتها في المذيق ، وأنّ صاحبة البقرة رضيت بأن تبيعنا كل يوم بنصف بني تفضّلا وتكرّما فأوسعناها شكرا وثناء ومطأطأة رأس وانحاء ، وفي هذا الشهر المبارك لم يكن يوجد شيء من الفاكهة ، ولا من البقول وكانت البصلة الصغيرة تباع ببني مع أنّ الحقول كلّها كانت ناضرة زاهية ، فالمارّ فيها هو كراكب البحر وهو ظامئ.
__________________
(١٢٠) المزر : نبيذ الشعير أو الحنطة. (م).