البحر ، فإن حصر الفطن يكون من حصر العطن (٧٨). ومن طبعهم التكشّف وبث ما هم فيه من الأحوال والاستقصاء عن حال المخاطب ، فاذا صحبت منهم أحدا لا يلبث أن يطلعك على كميّة دخله وخرجه ، وكيفيّة عمله ، ويقول : ليت لي مال فأتنعّم به ، ولو كنت من المثرين لأكلت أطايب المأكول ولبست أفخر الملبوس فيا سعد من عاش عيش المترفّهين ، فأخبرني أنت : ما دخلك؟ وكيف عيشك؟ ومن أين تشتري ثيابك وحاجتك؟ ومن يزورك؟ وهلم جرّا. فأمّا حبّهم لكسب المال فهو بحيث لم يغادر لشيء سواه قيمة. ومنهم من يسافر إلى البلاد الشاسعة ويعرّض نفسه للامتهان والابتذال ، حتى إذا أحرز المال رجع إلى وطنه متبذّخا متشبّعا ، يمرح في الأسواق مرح من ازدهته النعمة وأبطره الحظ. ولا شيء يعجبهم في الدنيا مثل بلادهم ، ولا تزال تسمعهم يتبجّحون بها وبأحوالها ، وإذا سألت أحدا منهم عنها أجابك بلسان ذلق عمّا كانت عليه من الغبطة والسعادة ، وآلت إليه من سوء الحظ. وهم في محبّتها كاليهود في محبّة صهيون ، ومن الغريب مع هذا التفاخر أنك إذا ذكرت لأحدهم أفراد قومه لم تلق راضيا عن أحد منهم ؛ فأول نعت ينعته به قوله : هو أبله ، أو هو شحيح ، فكأن قوله : «نحن المالطيين شأننا كذا» يريد به وحدة نفسه. أمّا مفاخرتهم بالألقاب فأكسى لهم من اللباس ، قلّ أن ترى أحدا منهم ممّن يقرأ ويكتب إلا وله لقب طبيب ، أو فقيه ، أو بارون ، أو مركيز ، أو دكطر (٧٩) على أنّهم لا يملكون به مسكة (٨٠) من العيش. ومن طبعهم التعقّب للزّلات والتعنّت والاغتياب ، فيتعقّبون الناس في مشيتهم ولبستهم ولهجتهم وسحنتهم ، فلا يكاد يعجبهم شيء. وما من خصلة حميدة إلا ويجعلونها قبيحة ، فإذا كان الإنسان كريما قالوا : إنّه مبذّر ، وإن كان مقتصدا قالوا : إنّه شحيح. ولا يبرحون مبربرين على الإنكليز ومتظلّمين منهم ، ويدّعون بأنّهم من بعد قدومهم إلى جزيرتهم ضاقت عليهم مذاهب المعيشة ، وغلت الأسعار حتى اضطروا إلى أن يهاجروا من بلادهم التي يصفونها بأنّها حنينة ،
__________________
(٧٨) العطن : مبرك الإبل ، والمقصود هو ان ضيق عقولهم ناتج عن ضيق مونهم. (م).
(٧٩) دكطر : تعني العالم في أي علم. (م).
(٨٠) مسكة من العيش : ما يمسك البدن من الطعام والشراب. (م).