والبيات والحجازي لا ينكر أيضا ، ثم أعود فأقول : لا غرو (١٠٠) أن يكون قد فاتهم أيضا بدائع في هذا الفن ، كما فاتهم في غيره أشياء أخرى ، وذلك ككثرة بحور العروض عندنا ، وكبعض محسنات الكلام ، وكالسجع في الكلام المنثور إذ ليس عندهم سوى المنظوم وهو في الإنشاء كالصوت المطلق في الغناء ، فإن السجع مقدّم على النظم ، وكعجزهم أيضا عن لفظ الأحرف الحلقية. وقد سألت مرّة أحد أهل الفن منهم فقلت : إن المقامات موجودة عندكم وعندنا على حد سوى (١٠١) وكذا أنصافها ، فبقي الكلام على استعمالها ، فإنّا لو استعملنا مثلا نصفا من الأنصاف مع مقامه ، وأنتم تستعملونه مع مقام آخر ، بحيث يظهر لنا أنه خروج ، فمن أين تعلم الحقيقة؟. فما كان منه الا أن قال : إن هذا الفن قد وضع عندهم عليأصول هندسيّة لا يمكن خرمها ؛ فلا يصح أن يستعمل مقام إلا مع مقام آخر ، على أني كثيرا ما سمعت منهم خروجا فاحشا على شغفي بألحانهم. وقد شاقني يوما وصف المادحين إلى سماع قينة بلغ من صيتها أنّها غنّت في مجلس قيصر الروس ، فلمّا سمعتها طربت لرخامة صوتها ، وطول نفسها في الغناء إلا أني سمعت منها خروجا بحسب ما وصل إليه إدراكي. ولو تيقّن أن ألحان الروم التي يرتلون بها اليوم في كنائسهم هي كما كان يتغنّى به في أيام الفلاسفة اليونانيين لكان ذلك دليلا آخر على قصور ألحان الإفرنج ؛ فإن أنغام الروم مقاربة لأنغامنا.
الخامس : إن أكثر أصحاب الآلات عندهم لا يحسنون إخراج أنصاف النغم وأرباعها ما لم تكن مرسومة لهم ، إلا صاحب الكمنجة ، فأمّا الناي ففيه خروق شتّى غير السبعة ، لكل اثنين منهما طباقة ، إذا سدّ منها منخر جاش منخر ، غير ـ أن الصنعة في إحكام سدّها واستعمالها تقارب صنعة تغيير نقل الأصابع عندنا ، وهذه الأنصاف والأرباع في النغم
__________________
(١٠٠) لا غرو : لا عجب. (م).
(١٠١) السّواء ، والسّوى : المثل والنظير. (م).