القلوب ، وتذرف لسماع كلامه العيون ، وتفرّد بهذا الفن وحصل له فيه القبول التام ، وفاق فيه من عاصره ، وكثيرا ممن تقدمه ، حتى أنه كان يتكلم في المجلس الكلمات اليسيرة المعدودة ، أو ينشد البيت الواحد من الشعر ، فيحصل لأهل المجلس من الخشوع والاضطراب والبكاء مالا مزيد عليه ، فيقتصر على ذلك القدر اليسير ، ويترك فكانت مجالسه نزهة القلوب والأبصار ، يحضرها الصلحاء والعلماء والملوك والأمراء والوزراء ، وغيرهم ولا يخلو المجلس من جماعة يتوبون ويرجعون إلى الله تعالى ، وفي كثير من المجالس يحضر من يسلم من أهل الذمة ، فانتفع بحضور مجالسه خلق كثير ، وكان الناس يبيتون ليلة المجلس في جامع دمشق ، ويتسابقون على مواضع يجلسون فيها لكثرة من يحضر مجالسه ، وكان يجري فيها من الطرف ، والوقائع المستحسنة ، والملح الغريبة ما لا يجري في مجالس غيره ممن عاصره ، وتقدم عصره أيضا ، وكان له الحرمة الوافرة ، والوجاهة العظيمة عند الملوك وغيرهم من الأمراء والأكابر ، ولا ينقطعون عن التردد إليه ، وهو يعاملهم بالفراغ منهم ، ومما في أيديهم ، وينكر عليهم فيما يبدو منهم من الأمور التي يتعين فيها الإنكار ، وهم يتطفلون عليه وكان في أول أمره حنبلي المذهب ، فلما تكرر اجتماعه بالملك المعظم عيسى ابن الملك العادل رحمهماالله اجتذبه إليه ، ونقله إلى مذهب أبي حنيفة رحمة الله عليه ، وكان الملك المعظم شديد التغالي في مذهب أبي حنيفة فغاظ ذلك الشيخ شمس الدين عند كثير من الناس وانتقدوه عليه.
حكي لي أن بعض الفقراء أرباب الأحوال قال له وهو على المنبر : إذا كان الرجل كبيرا ما يرجع عنه إلّا لعيب ظهر له فيه ، وأي شيء ظهر لك في الإمام أحمد حتى رجعت عنه؟ فقال له : اسكت ، فقال : أما أنا ، فقد سكت ، وأما أنت ، فتكلم فرام الكلام فلم يستطعه ولا قدر عليه ، فنزل عن المنبر ، ومع ذلك كان يعظم الإمام أحمد رحمة الله عليه ، ويبالغ