العهد المجيد الذي كان فيه العرب يسيرون في طليعة الحضارة ، وليس هذا وحسب ، بل على العكس تراجعت أيضا ؛ وتلك العلوم التي ابتدعوها وطوروها فيما مضى لفها النسيان تماما في الوقت الحاضر. بل أن التعليم الأولى البسيط ـ مجرد القراءة والكتابة ـ محصور ضمن حلقة ضيقة جدّا ؛ وأشراف مكة الذين يقومون بدور قادة الحجاج أثناء القيام بمراسم الحج لا يعرفون بأغلبيتهم الساحقة لا القراءة ولا الكتابة. وفي المدارس الدينية المحلية ، كما في جميع المدارس الدينية في أي مكان آخر ، يعلمون العلوم الرتيبة الدينية ذاتها بتفاصيلها الدقيقة جدّا وغير الضرورية ، مزدرين المواد الضرورية كالحساب والجغرافية مثلا. ولكن المدارس الدينية أيضا تحفل بالناس القادمين ، غير المحليين ، بينما المحليون استثناء فيها.
يرد إلى مكة عدد بسيط جدّا من الجرائد المصرية وعدد أقل من الجرائد التركية ؛ وفي الحال يصبح مضمونها معروفا في المدينة كلها ، نظرا لشدة تحرقها إلى الأنباء وبالغ اهتمامها بالحياة السياسية للشعوب الأخرى.
عرب مكة سنّيون جميعهم ، وأغلبهم من أنصار الشافعي ، ولا يتميزون كثيرا بالتقوى والتديّن. ويترددون على المساجد بحماسة وغيرة طالما الحجاج لم يعودوا إلى ديارهم. وإذ ذاك ، يبدأون يفضلون المقاهي وغير ذلك من الاجتماعات. وكثيرون منهم ينتسبون إلى مختلف شيع النساك ، وبخاصة إلى أنصار الرفاعي ؛ وما يجتذبهم إلى هذه الشيع ، بقدر ما استطعت أن ألاحظ ، ليس الشعور الديني بل احتمال الاشتراك ، أثناء حقبة السكون ، أي بعد رحيل الحجاج ، في مختلف المواكب والاجتماعات وما إلى ذلك. وبما أن سكان مكة الأصليين ليسوا مفركين في التدين والتقوى ، فهم كذلك براء من التعصب ؛ وأن دورا كبيرا في ذلك ، أيضا في تطورهم الفكري العام ، يعود ، كما يخيّل إليّ ،