نشر الله رحمته ، وأقشعت السحاب وطاب الهواء وأضاءت الشمس وأخذ في السكون البحر. فاستبشر الناس وعاد الأنس وذهب اليأس ، والحمد لله الذي أرانا عظيم قدرته ، ثم تلافى بجميل رحمته ولطيف رأفته ، حمدا يكون كفاء لمنته ونعمته.
وفي هذا الصباح المذكور ظهر لنا بر صقيلة وقد أجزنا أكثره ولم يبق منه الا الأقل. وأجمع من حضر من رؤساء البحر من الروم وممن شاهد الأسفار والأهوال في البحر من المسلمين أنهم لم يعاينوا قط مثل هذا الهول فيما سلف من أعمارهم ، والخبر عن هذه الحال يصغر في خبرها.
وبين البرين المذكورين بر سردانية وبر صقيلة نحو الاربع مئة ميل. واستصحبنا من برصقلية ازيد من مئتي ميل ، ثم ترددنا بحذائه بسبب سكون الريح. فلما كان عصر يوم الجمعة الحادي والعشرين من الشهر المذكور أقلعنا من الموضع الذي كنا أرسينا فيه ، وفارقنا البر المذكور أول تلك الليلة. وأصبحنا يوم السبت وبيننا وبينه مسافة بعيدة ، وظهر لنا اذ ذاك الجبل الذي كان فيه البركان (١) ، وهو جبل عظيم مصعد في جو السماء قد كساه الثلج. وأعلمنا أنه يظهر في البحر مع الصحو على أزيد من مسيرة مئة ميل. فأخذنا ملججين وأقرب ما نؤمله من البر الينا جزيرة أقريطش (٢) ، وهي من جزائر الروم ونظرها الى صاحب القسطنطينية ، وبينها وبين جزيرة صقيلة مسيرة سبع مئة ميل ، والله كفيل بالتيسير والتسهيل بمنّه. وفي طول هذه الجزيرة ، جزيرة أقريطش المذكورة ، نحو من ثلاث مئة ميل.
وفي ليلة الثلاثاء الخامس والعشرين من الشهر المذكور ، وهو الثاني والعشرون من شهر مارس ، حاذينا البر المذكور تقديرا لا عيانا. وفي صبيحة اليوم المذكور فارقناه متوجهين لقصدنا. وبين هذه الجزيرة المذكورة وبين الإسكندرية ست مئة ميل أو نحوها.
__________________
(١) هو بركان أتنا في صقلية.
(٢) اقريطش : الجزيرة المعروفة اليوم بكريت.