فلما كمل ايقاد الجميع بما ذكر كاد يعشي الأبصار شعاع تلك الانوار ، فلا تقع لمحة طرف الا على نور يشغل حاسة البصر عن استمالة النظر. فيتوهم المتوهم ، لهول ما يعاينه من ذلك ، أن تلك الليلة المباركة نزهت لشرفها عن لباس الظلماء فزينت بمصابيح السماء.
وتقدّم القاضي فصلى فريضة العشاء الآخرة ثم قام وابتدأ بسورة القدر. وكان أئمة الحرم في الليلة قبلها قد انتهوا في القراءة اليها. وتعطل في تلك الساعة سائر الأئمة من قراءة التراويح ، تعظيما لختمة المقام ، وحضروا متبركين بمشاهدتها.
وقد كان المقام المطهر أخرج من موضعه المستحدث في البيت العتيق ، حسبما تقدم الذكر أولا له ، فيما سلف من هذا التقييد ، ووضع في محله الكريم المتخذ مصلى مستورا بقبته التي يصلي الناس خلفها. فختم القاضي بتسليمتين وقام خطيبا مستقبل المقام والبيت العتيق. فلم يتمكن من سماع الخطبة للازدحام وضوضاء العوام.
فلما فرغ من خطبته عاد الأئمة لإقامة تراويحهم ، وانفض الجمع ونفوسهم قد استطارت خشوعا ، وأعينهم قد سالت دموعا ، والأنفس قد أشعرت من فضل تلك الليلة المباركة رجاء مبشرا بمن الله تعالى بالقبول ، ومشعرا أنها ولعلها ليلة القدر المشرف ذكرها في التنزيل ، والله ، عزوجل ، لا يخلي الجميع من بركة مشاهدتها وفضل معاينتها ، انه كريم منان ، لا اله سواه.
ثم ترتبت قراءة أئمة المقام الخمسة المذكورين أولا ، بعد هذه الليلة المذكورة ، بآيات ينتزعونها من القرآن على اختلاف السور ، تتضمن التذكير والتحذير والتبشير ، بحسب اختيار كل واحد منهم. ورسم طوافهم اثر كل تسليمتين باق على حاله ، والله ولي القبول من الجميع.
ثم كانت ليلة تسع وعشرين منه ، فكان المختتم فيها سائر أئمة التراويح ملتزمين رسم الخطبة اثر الختمة ، والمشار اليه منهم المالكي ، فتقدم باعداد اعواد بإزاء محرابه نصبها ستة على هيئة دائرة محراب مرتفعة عن الأرض بدون