وكان ايضا مما حكي من قوله : تشوشت المغارب ، وتعرضت شعرة من الحاجب ، فأبصروا خيالا ظنوه هلالا. وكان لهذا القاضي جمال الدين ، في أمر هذه الشهادة الزورية مقام من التوقف والتحري ، حمده له أهل التحصيل وشكره عليه ذوو العقول ، وحق لهم ذلك ، فإنها مناسك الحج للمسلمين عظيمة ، أتوا لها من كل فج عميق. فلو تسومح فيها بطل السعي ، وفال الرأي ، والله يرفع الالتباس والبأس بمنه.
فلما كانت ليلة الجمعة المذكورة ظهر الهلال أثناء فرج السحاب وقد اكتسى نورا من الثلاثين ليلة ، فزعقت العامة زعقات هائلة وتنادت بوقفة الجمعة ، وقالت : الحمد لله الذي لم يخيب سعينا ، ولا ضيع قصدنا. كأنهم قد صح عندهم أن الوقفة اذا لم تكن توافق يوم الجمعة ليست مقبولة ، ولا الرحمة فيها من الله مرجوة مأمولة ؛ تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
ثم إنهم يوم الجمعة المذكور اجتمعوا الى القاضي فأدوا شهادات بصحة الرؤية تبكي الحق وتضحك الباطل ، فردها وقال : يا قوم حتام هذا التمادي في الشهوة ، والام تستنون في طرق الهفوة؟ وأعلمهم أنه قد استأذن الأمير مكثرا في ان يكون الصعود الى عرفات صبيحة يوم الجمعة فيقفوا عشية بها ، ثم يقفوا صبيحة يوم السبت بعده ويبيتوا ليلة الأحد بمزدلفة ، فان كانت الوقفة يوم الجمعة فما عليهم في تأخير المبيت بمزدلفة بأس ، اذ هو جائز عند أئمة المسلمين ، وان كانت يوم السبت فبها ونعمت. وأما أن يقع القطع بها يوم الجمعة فتغرير بالمسلمين وافساد لمناسكهم ، لأن الوقفة يوم التروية عند الأئمة غير جائزة ، كما أنها عندهم جائزة يوم النحر. فشكر جميع من حضر للقاضي هذا المنزع من التحقيق ودعوا له ، وأظهر من حضر من العامة الرضى بذلك وانصرفوا عن سلام ، والحمد لله على ذلك.
وهذا الشهر المبارك هو ثالث الأشهر الحرم ، وعشره الأولى مجتمع الامم وموسم الحج الاعظم ، شهر العج والثج ، وملتقى وفود الله من كل أوب وفج ،