الآفاق من الواصلين صحبة أمير الحاج المذكور جمع لا يحصي عدده الا الله تعالى ، يغص بهم البسيط الأفيح ، ويضيق عنهم المهمه الصحصاح ، فترى الأرض تميد بهم ميدا ، وتموج بجميعهم موجا ، فتبصر منهم بحرا طامي العباب ، ماؤه السراب ، وسفنه الركاب ، وشرعه الظلائل المرفوعة والقباب ، تسير سير السحب المتراكمة ، يتداخل بعضها على بعض ، ويضرب بعضها جوانب بعض. فتعاين لها تزاحما في البراح المنفسح يهول ويروع ، واصطكاكا نبع المحارات فيه بعضه ببعض مقروع ، فمن لم يشاهد هذا السفر العراقي لم يشاهد من أعاجيب الزمان ما يحدث به ويتحف السامع بغرابته ، والقدرة والقوة لله وحده ، وحسبك ان النازل في منزل من منازل هذه المحلة متى خرج عنها لبعض حاجة ولم تكن له دلالة يستدل بها على موضعه ضل وتلف وعاد منشودا في جملة الضوّال ، وربما اضطرته الحال الى الوصول الى مضرب الأمير ورفع مسألته اليه ، فيأمر أحد المنشدين ببريحه والهاتفين بأوامره ممن قد أعد لذلك ان يردفه خلفه على جمل ويطوف به المحلة العجاجة ، وهو قد ذكر له اسمه ، واسم جمّاله ، واسم البلد الذي هو منه ، فيرفع عقيرته بذلك معرّفا بهذا الضال ومناديا باسم الجمال وبلده ، الى أن يقع عليه ، فيؤديه اليه. ولو لم يفعل ذلك لكان آخر عهده بصاحبه الا أن يلتقطه التقاطا أو يقع عليه اتفاقا. فهذا من بعض عجائب شؤون هذه المحلة ، وعجائبها أكثر من أن يحيط بها الوصف. ولأهلها من قوة الجدة واليسار ما يعينهم على ما هم بسبيله ، والملك بيد الله يؤتيه من يشاء.
ولهؤلاء النسوة الخواتين في كل عام ، إذا لم يحججن بأنفسهن ، نواضح مسبلة مع الحاج يرسلنها مع ثقات يسقون أبناء السبيل في المواضع المعروف فيها الماء ، وفي الطريق كله ، وبعرفات ، وبالمسجد الحرام ، في كل يوم وليلة ، فلهن في ذلك أجر عظيم ، وما التوفيق الا بالله جلّ جلاله. فتسمع المنادي على النواضح يرفع صوته بالماء للسبيل ، فيهطع اليه المرملون من الزاد والماء بقربهم وأباريقهم فيملأونها ، ويقول المنادي في اشادته بصوته : أبقى الله الملكة خاتون ، ابنة الملك الذي من أمره كذا ، ومن شأنه كذا. ويحليه بحلاه ، إعلانا باسمها ،