ومنهم من يخرج الشقة الغالية من الحرير فيعطيها ، وقد أعدها لذلك ، ومنهم من يخلع عمامته فينبذها ، ومنهم من يتجرد عن برده فيلقي به ، ومنهم من لا يتسع حاله لذلك فيسمح بفضلة من الخام ، ومنهم من يدفع القراضة من الذهب ، ومنهم من يمد يده بالدينار والدينارين الى غير ذلك ، ومن النساء من تطرح خلخالها وتخرج خاتمها فتلقيه ، الى ما يطول الوصف له من ذلك. والخطيب ، في أثناء هذه الحال كلها ، جالس على المنبر يلحظ هؤلاء المستجدين المستسعين على الناس بلحظات يكرّها الطمع ويعيدها الرغبة والاستزادة ، الى أن كاد الوقت ينقضي ، والصلاة تفوت ، وقد ضج من له دين وصحة من الناس ، وأعلن بالصياح وهو قاعد ينتظر اشتفاف صبابة الكدية وقد أراق عن وجهه ماء الحياء ، فاجتمع له من ذلك السحت المؤلف كوم عظيم أمامه ، فلما أرضاه قام وأكمل الخطبة وصلى بالناس. وانصرف أهل التحصيل باكين على الدين ، يائسين من فلاح الدنيا متحققين أشراط الآخرة. ولله الأمر من قبل ومن بعد! وفي عشي ذلك اليوم المبارك كان وداعنا للروضة المباركة والتربة المقدسة ، فيا له وداعا عجبا ذهلت له النفوس ارتياعا حتى طارت شعاعا ، واستشرت به النفوس التياعا حتى ذابت انصداعا! وما ظنك بموقف يناجى بالتوديع فيه سيد الأولين والآخرين ، وخاتم النبيين ، ورسول رب العالمين؟ إنه لموقف تنفطر له الأفئدة ، وتطيش به الالباب الثابتة المتئدة ، فوا أسفاه وا أسفاه! كل يبوح لديه بأشواقه ، ولا يجد بدا من فراقه ، فما يستطيع الى الصبر سبيلا ، ولا تسمع في هول ذلك المقام الا رنة وعويلا ، وكلّ بلسان الحال ينشد :
محبتي تقتضي مقامي |
|
وحالتي تقتضي الرحيلا |
بوّأنا الله بزيارة هذا النبي الكريم منزل الكرامة ، وجعله شفيعا لنا يوم القيامة واحلنا من فضله في جواره دار المقامة ، برحمته انه غفور رحيم ، جواد كريم. وكان مقامنا بالمدينة المكرمة خمسة أيام ، أولها يوم الاثنين وآخرها يوم الجمعة.