ثم رحلنا منها ونزلنا عشي النهار بقرية تعرف بزريران ، وهذه القرية من أحسن قرى الارض ، وأجملها منظرا ، وافسحها ساحة ، وأوسعها اختطاطا ، وأكثرها بساتين ورياحين وحدائق نخيل. وكان بها سوق تقصر عنه أسواق المدن. وحسبك من شرف موضعها ان دجلة تسقي شرقيها ، والفرات يسقي غربيها ، وهي كالعروس بينهما ، والبسائط والقرى والمزارع متصلة بين هذين النهرين الشريفين المباركين.
ومن شرف هذه القرية أيضا أن بإزائها ، لجهة الشرق منها ، إيوان كسرى وأمامها بيسير مدائنه. وهذا الإيوان بناء عال في الهواء ، شديد البياض ، لم يبق من قصوره إلا البعض ، فعايناها على مقدار الميل سامية مشرفة مشرقة ، وأما المدائن فخراب ، اجتزنا عليها سحر يوم الأربعاء الثالث لصفر فعاينا من طولها واتساعها مرأى عجيبا. ومن فضائل هذه القرية أيضا أن بالشرق منها بمقدار نصف فرسخ مشهد سلمان الفارسي ، رضياللهعنه. فما اختصت تربتها بهذا الدفين المبارك ، رضياللهعنه ، إلا لفضل تربتها.
والقرية على شط دجلة ، وهي تعترض بينها وبين المشهد الكريم المذكور ، وكنا سمعنا أن هواء بغداد ينبت السرور في القلب ، ويبعث النفس دائما على الانبساط والأنس ، فلا تكاد تجد فيها إلا جذلان طربا ، وان كان نازح الدار مغتربا ، حتى حللنا بهذا الموضع المذكور ، وهو على مرحلة منها ، فلما نفحتنا نوافح هوائها ، ونقعنا الغلة ببرد مائها ، أحسسنا من نفوسنا ، على حال وحشة الاغتراب ، دواعي من الإطراب ، واستشعرنا بواعث فرح كأنه فرحة الغياب بالإياب ، وهبّت بنا محركات من الإطراب ، أذكرتنا معاهد الأحباب ، في ريعان الشباب. هذا للغريب النازح الوطن ، فكيف للوافد فيها على أهل وسكن!
سقى الله باب الطاق صوب غمامة |
|
ورد الى الاوطان كلّ غريب |
وفي سحر يوم الأربعاء المذكور رحلنا من القرية المذكورة واجتزنا على مدائن