ثم انه اتى بعد أن فرغ من خطبته برقائق من الوعظ وآيات بيّنات من الذكر ، طارت لها القلوب اشتياقا ، وذابت بها الأنفس احتراقا ، الى أن علا الضجيج ، وتردد بشهقاته النشيج ، واعلن التائبون بالصياح ، وتساقطوا عليه تساقط الفراش على المصباح ، كل يلقي ناصيته بيده فيجزها ، ويمسح على رأسه داعيا له ، ومنهم من يغشى عليه فريفع في الأذرع اليه ، فشاهدنا هولا يملأ النفوس انابة وندامة ، ويذكرها هول يوم القيامة ، فلو لم نركب ثبج البحر ، ونعتسف مفازات القفر الا لمشاهدة مجلس من مجالس هذا الرجل ، لكانت الصفقة الرابحة والوجهة المفلحة الناجحة ، والحمد لله على أن منّ بلقاء من تشهد الجمادات بفضله ، ويضيق الوجود عن مثله.
وفي أثناء مجلسه ذلك يبتدرون المسائل ، وتطير اليه الرقاع ، فيجاوب أسرع من طرفة عين. وربما كان أكثر مجلسه الرائق من نتائج تلك المسائل ، والفضل بيد الله يؤتيه من يشاء ، لا اله سواه.
ثم شاهدنا مجلسا ثانيا له ، بكرة يوم الخميس الحادي عشر لصفر ، بباب بدر في ساحة قصور الخليفة ، ومناظره مشرفة عليه. وهذا الموضع المذكور هو من حرم الخليفة ، وخص بالوصول اليه والتكلم فيه ليسمعه من تلك المناظر الخليفة ووالدته ومن حضر من الحرم. ويفتح الباب للعامة فيدخلون الى ذلك الموضع ، وقد بسط بالحصر. وجلوسه بهذا الموضع كل يوم خميس. فبكرنا لمشاهدته بهذا المجلس المذكور ، وقعدنا الى أن وصل هذا الحبر المتكلم ، فصعد المنبر ، وأرخى طيلسانه عن رأسه تواضعا لحرمة المكان ، وقد تسطر القراء أمامه على كراسي موضوعة ، فابتدروا القراءة على الترتيب ، وشوّقوا ما شاءوا ، وأطربوا ما أرادوا. وبدرت العيون بارسال الدموع. فلما فرغوا من القراءة ، وقد احصينا لهم تسع آيات من سور مختلفات ، صدع بخطبته الزهراء الغرّاء ، واتى بأوائل الآيات في أثنائها منتظمات ، ومشى الخطبة على فقرة آخر آية منها في الترتيب الى أن أكملها ، وكانت الآية (اللهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَالنَّهارَ