ونزلنا لأخذ نفس راحة واختلاس سنة نوم ، فهوّمنا هنيهة ، ورحلنا وأسأدنا الى الصباح. وتمادى سيرنا الى أن ارتفع النهار من يوم الأحد بعده ، فنزلنا قائلين بقرية على شط دجلة تعرف بالجديدة ، وبمقربة منها قرية كبيرة اجتزنا عليها تعرف بالعقر وعلى رأسها ربوة مرتفعة كانت حصنا لها ، وأسفلها خان جديد بأبراج وشرف حفيل البنيان وثيقه. والقرى والعمائر من هذا الموضع الى الموصل متصلة. ومن هنا ينتثر انتظام الحاج في المشي فينبسط كل في طريقه متقدما ومتأخرا ، وبطيئا ومستعجلا ، آمنا مطمئنا.
فرحلنا منها قريب العصر ، وتمادى سيرنا الى المغرب ، ونزلنا آخذين غفوة سنة خلال ما تتعشى الإبل. ورحلنا قبل نصف الليل وأدلجنا الى الصباح.
وفي ضحوة هذا اليوم ، وهو يوم الاثنين الثاني والعشرين لصفر ، والرابع ليونيه ، مررنا بموضع يعرف بالقيارة من دجلة ، وبالجانب الشرقي منها ، وعن يمين الطريق الى الموصل ، فيه وهدة من الأرض سوداء كأنها سحابة قد أنبط الله فيها عيونا كبارا وصغارا تنبع بالقار ، وربما يقذف بعضها بحباب منه كأنها الغليان ، ويصنع له أحواض يجتمع فيها فتراه شبه الصلصال منبسطا على الأرض أسود أملس ، صقيلا رطبا ، عطر الرائحة ، شديد التعلك ، فيلصق بالأصابع لأول مباشرة من اللمس ، وحول تلك العيون بركة كبيرة سوداء يعلوها شبه الطحلب الرقيق أسود تقذفه الى جوانبها فيرسب قارا ، فشاهدنا عجبا كنا نسمع به فنستغرب سماعه.
وبمقربة من هذه العيون على شط دجلة عين أخرى منه كبيرة ، أبصرنا على البعد منها دخانا ، فقيل لنا : ان النار تشعل فيه اذا أرادوا نقله فتنشّف النار رطوبته المائية وتعقّده ، فيقطعونه قطرات ويحملونه ، وهو يعم جميع البلاد الى الشام الى عكة الى جميع البلاد البحرية ، والله يخلق ما يشاء ، سبحانه تعالى جدّه ، وجلت قدرته ، لا رب غيره. ولا شك أن على هذه الصفة هي العين التي ذكر لنا أنها بين الكوفة والبصرة ، وقد ذكرنا أمرها في هذا التقييد ، ومن