مسافة العمق أو أقل شيئا ؛ شاهدنا ذلك عيانا. وماؤها أصفى من الزلال وأعذب من السلسبيل ، يشفّ عما حواه ، فلو طرح الدينار فيه في الليلة الظلماء لما أخفاه ، ويصاد فيها سمك جليل من أطيب ما يكون من السمك.
وينقسم ماء هذه العين نهرين : أحدهما آخذ يمينا ، والآخر يسارا. فالأيمن يشق خانقة مبنية للصوفية والغرباء بإزاء العين ، وهي تسمى الرباط أيضا ، والأيسر ينسرب على جانب الخانقة وتفضي منه جداول الى مطاهرها ومرافقها المعدة للحاجة البشرية ، ثم يلتقيان أسفلها مع نهر العين الأخرى العليا ، وقد بنيت على شط نهرهما المجتمع بيوت أرحى تتصل على شط موضوع وسط النهر كأنه سدّ. ومن مجتمع ماء هاتين العينين منشأ نهر الخابور.
وبمقربة من هذه الخانقة بحيث تناظرها مدرسة بإزائها حمام ، وكلاهما قد وهى وأخلق وتعطل ، وما ارى كان في موضوعات الدنيا مثل موضوع هذه المدرسة ، لأنها في جزيرة خضراء والنهر يستدير بها من ثلاثة جوانب والمدخل اليها من جانب واحد ، وامامها ووراءها بستان ، وبإزائها دولاب يلقي الماء الى بساتين مرتفعة عن مصب النهر. وشأن هذا الموضع كله عجيب جدا : فغاية حسن القرى بشرقي الأندلس أن يكون لها مثل هذا الموضع جمالا أو تتحلى بمثل هذه العيون ، ولله القدرة في جميع مخلوقاته.
وأما المدينة فللبداوة بها اعتناء ، وللحضارة عنها استغناء لا سور يحصنها ، ولا دور أنيقة البناء تحسنها ، قد ضحيت في صحرائها كأنها عوذة لبطحائها ، وهي مع ذلك كاملة مرافق المدن ، ولها جامعان حديث وقديم ، فالقديم بموضع هذه العيون ، وتنفجر أمامه عين معينة هي دون اللتين ذكرناهما. وهو من بنيان عمر بن عبد العزيز ، رضياللهعنه ، لكنه قد أثر القدم فيه حتى آذن بتداعيه. والجامع الآخر داخل البلد ، وفيه يجمع أهله. فكان مقامنا بها ذلك اليوم نزهة لم نختلس في سفرنا كله مثلها.
فلما كان عند المغيب من يوم السبت الخامس لربيع المذكور ، وهو السادس