سلسبيل ، تنساب مذانبه انسياب الأراقم بكل سبيل ، ورياض يحيي النفوس نسيمها العليل ، تتبرج لناظريها بمجتلى صقيل ، وتناديهم : هلموا الى معرّس للحسن ومقيل ، قد سئمت أرضها كثرة الماء حتى اشتاقت الى الظماء ، فتكاد تناديك بها الصم الصلاب : اركض برجلك هذا مغتسل بارد وشراب ؛ قد أحدقت البساتين بها إحداق الهالة بالقمر ، واكتنفتها اكتناف الكمامة للزهر ، وامتدت بشرقيها غوطتها الخضراء امتداد البصر ، فكل موضع لحظته بجهاتها الأربع نصرته اليانعة قيد النظر ، ولله صدق القائلين عنها : إن كانت الجنة في الأرض فدمشق لا شك فيها ، وإن كانت في السماء فهي بحيث تسامتها وتحاذيها.
جامعها المكرم
هو من أشهر جوامع الإسلام حسنا ، واتقان بناء ، وغرابة صنعة ، واحتفال تنميق وتزيين. وشهرته المتعارفة في ذلك تغني عن استغراق الوصف فيه. ومن عجيب شأنه أنه لا تنسج به العنكبوت ولا تدخله ، ولا تلم به الطير المعروفة بالخطاف. انتدب لبنائه الوليد بن عبد الملك ، رحمهالله ، ووجه الى ملك الروم بالقسطنطينية يأمره بإشخاص اثني عشر ألفا من الصناع من بلاده ، وتقدم اليه بالوعيد في ذلك ان توقف عنه. فأمتثل أمره مذعنا بعد مراسلة جرت بينهما في ذلك مما هو مذكور في كتب التاريخ. فشرع في بنائه ، وبلغت الغايات في التأنق فيه ، وانزلت جدره كلها بفصوص من الذهب المعروف بالفسيفساء ، وخلطت بها أنواع من الأصبغة الغريبة ، قد مثلت أشجارا ، وفرعت اغصانا منظومة بالفصوص ، ببدائع من الصنعة الأنيقة المعجزة وصف كل واصف ، فجاء يغشي العيون وميضا وبصيصا. وكان مبلغ النفقة فيه ، حسبما ذكره ابن المعلى الأسدي في جزء وضعه في ذكر بنائه ، مئة صندوق ، في كل صندوق ثمانية وعشرون ألف دينار ومئتا أنف دينار ، فكان مبلغ الجميع أحد عشر