ذكر مدينة عكه دمرها الله وأعادها
هي قاعدة مدن الافرنج بالشام ، ومحط الجواري المنشآت في البحر كالأعلام ، مرفأ كل سفينة ، والمشبهة في عظمها بالقسطنطينية ، مجتمع السفن والرفاق ، وملتقى تجار المسلمين والنصارى من جميع الآفاق ، سككها وشوارعها تغص بالزحام ، وتضيق فيها مواطئ الأقدام ، تستعر كفرا وطغيانا ، وتفور خنازير وصلبانا ، زفرة قذرة ، مملوءة كلها رجسا وعذرة. انتزعها الافرنج من أيدي المسلمين في العشر الاول من المئة السادسة ، فبكى لها الاسلام ملء جفونه ، وكانت احد شجونه. فعادت مساجدها كنائس ، وصوامعها مضارب للنواقيس ، وطهر الله من مسجدها الجامع بقعة بقيت بأيدي المسلمين مسجدا صغيرا ، يجمع الغرباء منهم فيه لإقامة فريضة الصلاة. وعند محرابه قبر صالح النبي ، صلىاللهعليهوسلم وعلى جميع الأنبياء ، فحرس الله هذه البقعة من رجس الكفرة ببركة هذا القبر المقدس.
وفي شرقي البلدة العين المعروفة بعين البقر ، وهي التي أخرج الله منها البقر لآدم ، صلىاللهعليهوسلم. والمهبط لهذه العين على ادراج وطية ، وعليها مسجد بقي محرابه على حاله ، ووضع الافرنج في شرقيه محرابا لهم. فالمسلم والكافر يجتمعان فيه ، يستقبل هذا مصلاه وهذا مصلاه. وهو بأيدي النصارى معظم محفوظ ، وأبقى الله فيه موضع الصلاة للمسلمين.
فكان مقامنا بها يومين ، ثم توجهنا الى صور يوم الخميس الثاني عشر لجمادى المذكورة ، ، والموفي عشرين لشتنبر المذكور على البر ، واجتزنا في طريقنا على حصن كبير يعرف بالزاب ، وهي مطلة على قرى وعمائر متصلة وعلى قرية مسوّرة تعرف باسكندرونة ، وذلك لمطالعة مركب بها أعلمنا أنه يتوجه الى بجاية طمعا في الركوب فيه ، فحللناها عشي يوم الخميس المذكور ، لأن المسافة بين المدينتين نحو الثلاثين ميلا ، فنزلنا بها في خان معد لنزول المسلمين.