الأسباب الباقية في الزورق ، وسرنا في طريق كأنها السوق عمارة وكثرة صادر ووارد ، وطوائف النصارى يتلقوننا فيبادرون بالسلام علينا ويؤنسوننا ، فرأينا من سياستهم ولين مقصدهم مع المسلمين ما يوقع الفتنة في نفوس أهل الجهل ، عصم الله جميع أمة محمد ، صلىاللهعليهوسلم ، من الفتنة بهم بعزته ومنه ، فانتهينا الى قصر سعد ، وهو على فرسخ من المدينة ، وقد أخذ منا الإعياء فملنا اليه وبتنا فيه.
وهذا القصر على ساحل البحر مشيد البناء عتيقه قديم الوضع من عهد ملكة المسلمين للجزيرة ، لم يزل ولا يزال ، بفضل الله ، مسكنا للعباد منهم ، وحوله قبور كثيرة للمسلمين : أهل الزهادة والورع ، وهو موصوف بالفضل والبركة مقصود من كل مكان ، وبإزائه عين تعرف بعين المجنونة ، وله باب وثيق من الحديد ، وداخله مساكن ، وعلالي مشرفة وبيوت منتظمة ، وهو كامل مرافق السكنى ، وفي اعلاه مسجد من احسن مساجد الدنيا بهاء ، مستطيل ذو حنايا مستطيلة ، مفروش بحصر نظيفة ، لم ير أحسن منها صنعة ، وقد علق فيه نحو الأربعين قنديلا من أنواع الصفر والزجاج ، وأمامه شارع واسع يستدير بأعلى القصر ، وفي أسفل القصر بئر عذبة. فبتنا في هذا المسجد أحسن مبيت وأطيبه ، وسمعنا الأذان وكنا قد طال عهدنا بسماعه. وأكرمنا القوم الساكنون فيه. وله إمام يصلي بهم الفريضة. والتراويح في هذا الشهر المبارك. وبمقربة من هذا القصر ، بنحو الميل الى جهة المدينة ، قصر آخر على صفته يعرف بقصر جعفر ، وداخله سقاية تفور بماء عذب. وأبصرنا للنصارى في هذه الطريق كنائس معدة لمرضى النصارى ، ولهم في مدنهم مثل ذلك على صفة مارستانات المسلمين ، وأبصرنا لهم بعكة وبصور مثل ذلك ، فعجبنا من اعتنائهم بهذا القدر.
فلما صلينا الصبح توجهنا الى المدينة فجئنا لندخل ، فمنعنا وحملنا الى الباب المتصل بقصور الملك الأفرنجي ، أراح الله المسلمين من ملكته ، وادينا الى المستخلف من قبله ليسألنا عن مقصدنا ، وكذلك فعلهم بكل غريب ، فسلك رحاب وابواب وساحات ملوكية ، وأبصرنا من القصور المشرفة والميادين المنتظمة والبساتين والمراتب المتخذة لأهل الخدمة ما راع أبصارنا وأذهل أفكارنا ،