الفصوص الخضر ونظم أعلاها بالشمسيات المذهبات من الزجاج ، فتخطف الأبصار بساطع شعاعها ، وتحدث في النفوس فتنة نعوذ بالله منها ، وأعلمنا ان بانيها الذي تنسب اليه أنفق فيها قناطير من الذهب ، وكان وزيرا لجد هذا الملك المشرك ، ولهذه الكنيسة صومعة قد قامت على أعمدة سوار من الرخام ملونة وعلت قبة على أخرى سوار كلها فتعرف بصومعة السواري ، وهي من أعجب ما يبصر من البنيان ، شرفها الله عن قريب بالأذان ، بلطفه وكريم صنعه.
وزي النصرانيات في هذه المدينة زي نساء المسلمين : فصيحات الألسن ، ملتحفات ، منتقبات ، خرجن في هذا العيد المذكور وقد لبسن ثياب الحرير المذهب ، والتحفن اللحف الرائقة ، وانتقبن بالنقب الملونة ، وانتعلن الأخفاف المذهبة ، وبررن لكنائسهن أو كنسهن حاملات جميع زينة نساء المسلمين من التحلي والتخضب والتعطر. فتذكرنا على جهة الدعابة الأدبية قول الشاعر :
أن من يدخل الكنيسة يوما |
|
يلق فيها جآذرا وظباء |
ونعوذ بالله من وصف يدخل مدخل اللغو ، ويؤدي الى أباطيل اللهو ، ونعوذ به من تقييد ، يؤدي الى تفنيد ، انه سبحانه أهل التقوى وأهل المغفرة. فكان مقامنا بهذه المدينة سبعة أيام ، ونزولنا بها في احد فنادقها التي يسكنها المسلمون ، وخرجنا منها صبيحة يوم الجمعة الثاني والعشرين لهذا الشهر المبارك ، والثامن والعشرين لشهر دجنبر ، الى مدينة أطرابنش ، بسبب مركبين بها : أحدهما يتوجه الى الأندلس والثاني الى سبتة ، وكنا أقلعنا الى الاسكندرية فيه ، وفيهما حجاج وتجار من المسلمين ، فسلكنا على قرى متصلة وضياع متجاورة ، وأبصرنا محارث ومزارع لم نر مثل تربتها طيبا وكرما واتساعا ، فشبهناها بقنبانية قرطبة ، أو هذه أطيب وأمتن.
وبتنا في الطريق ليلة واحدة في بلدة تعرف بعلقمة ، وهي كبيرة متسعة ، فيها السوق والمساجد ، وسكانها وسكان هذه الضياع التي في هذه الطريق كلها مسلمون ، وقمنا منها سحر يوم السبت الثالث والعشرين لهذا الشهر المبارك ، والتاسع والعشرين لدجنبر ، فاجتزنا بمقربة منها على حصن يعرف بحصن الحمة ، وهو بلد كبير فيه حمامات كثيرة ، وقد فجرها الله ينابيع في الارض وأسالها عناصر لا يكاد البدن يحتملها لإفراط حرّها ، فأجزنا منها واحدة على