بمقاساة الوحشة فيه ، ونحن نيف على الخمسين رجلا من المسلمين ، عصم الجميع ونظم شملهم بأوطانهم بمنه وكرمه ، انه سبحانه كفيل بذلك. ورمنا الإقلاع فلم توافق الريح ، فلم نزل نتردد من المركب الى البر ونبيت السفر كل ليلة اثني عشر يوما الى أن أذن الله بالإقلاع صبيحة يوم الاثنين الحادي والعشرين لذي الحجة المذكور ، والخامس والعشرين لمارس ، فأقلعنا على بركة الله تعالى في ثلاث مراكب من الروم قد توافقت على الاصطحاب في الجري وأن يمسك المتقدم منها على المتأخر ، فوصلنا الى جزيرة الراهب ، وقد تقدم ذكرها في هذا التقييد ، وبينها وبين أطرابنش نحو ثمانية عشر ميلا ، فتغيرت الريح علينا ، فملنا الى مرساها.
فكان من الاتفاق العجيب أن ألفينا فيها مركب مركون الجنوي المقلع من الإسكندرية بنحو مئتي رجل ونيف من أصحابنا الحجاج المغاربة الذين كنا فارقناهم بمكة ، قدّسها الله ، في ذي الحجة من سنة تسع ، ولم نسمع لهم خبرا منذ فارقناهم ولا سمعوا لنا ، وكان فيهم جماعة من أصحابنا من أهل أغرناطة ، منهم الفقيه أبو جعفر بن سعد صاحبنا ونزيلنا بمكة مدة مقامنا فيها ، فلحين ما علموا بنا تطلعوا الينا من المركب متعلقين بحافاته وجوانبه رافعين أصواتهم ببشرى السلامة واللقاء مسرورين بالاجتماع باكين من الفرح دهشين ذاهلين لوقوع المسرة من نفوسهم ، ونحن لهم على مثل تلك الحال. فكان يوما مشهودا اتخذناه عقب العيد عيدا جديدا. ونزل الأصحاب بعضهم الى بعض ، وباتوا وبتنا بأسرّ ليلة وانعمها ، وجعلنا هذا الاجتماع عنوانا كريما لما نؤمله من انتظام الشمل بالأوطان ، إن شاء الله عزوجل.
وأهب الله علينا ريحا طيبة في سحر تلك الليلة ، وهي ليلة الثلاثاء الثاني والعشرين من الشهر المذكور ، فأقلعنا بها ونحن في أربعة مراكب كلها تؤمل جزيرة الأندلس ، بحول الله تعالى ، وسرنا ذلك اليوم كله بريح تزجي المراكب تزجية حثيثة ، ونحن من الشوق الى الأندلس بحال تكاد لها النفوس تقوم مقام الرياح في حث الرياح وانزعاجها ، والله يمن بالتسهيل والتعجيل. ثم انقلبت الريح غربية ، بعد مسير يوم وليلتين ، فضربت في وجوهنا فأنكصتنا على الأعقاب ، فرجعنا عودا على بدء الى مرسى جزيرة الراهب ، فوصلنا اليه ليلة الخميس الرابع والعشرين من الشهر المذكور.