هذه المسافة ؛ ومن أودية بقرب من البلد كعين سليمان وسواها ، قد جلب الله اليها من المغاربة ذوي البصارة بالفلاحة والزراعة فأحدثوا فيها بساتين ومزارع ، فكانوا أحد الأسباب في خصب هذه الجهات ، وذلك بفضل الله ، عزوجل ، وكريم اعتنائه بحرمه الكريم ، وبلده الأمين.
ومن أغرب ما الفيناه فاستمتعنا بأكله وأجرينا الحديث باستطابته ، ولا سيما لكوننا لم نعهده ، الرّطب ، وهو عندهم بمنزلة التين الأخضر في شجره يجنى ويؤكل ، وهو في نهاية من الطيب واللذاذة ، لا يسأم التفكه به ، وابّانه عندهم عظيم ، يخرج الناس اليه كخروجهم الى الضّيعة أو كخروج أهل المغرب لقراهم أيام نضج التين والعنب ، ثم بعد ذلك عند تناهي نضجه يبسط على الأرض قدر ما يجف قليلا ثم يركم بعضه على بعض في السلال والظروف ويرفع.
ومن صنع الله الجميل وفضله العميم علينا أنّا وصلنا الى هذه البلدة المكرمة فألفينا كل من بها من الحجاج المجاورين ممن قدم عهده فيها وطال مقامه بها يتحدث على جهة العجب بأمنها من الحرابة المتلصصين فيها على الحاج المختلسين ما بأيديهم والذين كانوا آفة الحرم الشريف ، لا يغفل أحد عن متاعه طرفة عين الا اختلس من يديه أو من وسطه بحيل عجيبة ولطافة غريبة ، فما منهم الا أحذّ يد القميص ، فكفى الله في هذا العام شرهم الا القليل ، وأظهر أمير البلد التشديد عليهم فتوقف شرهم ، وبطيب هوائها في هذا العام ، وفتور حمارّة قيظها المعهود فيها ، وانكسار حدة سمومها. وكنا نبيت في سطح الموضع الذي كنا نسكنه ، فربما يصيبنا من برد هواء الليل ما نحتاج معه الى دثار يقينا منه. وذلك أمر مستغرب بمكة.
وكانوا أيضا يتحدثون بكثرة نعمها في هذا العام ، ولين سعرها ، وأنها خارقة للعوائد السالفة عندهم. كان سوم الحنطة أربعة اصواع بدينار مؤمني ، وهي أوبتان من كيل مصر وجهاتها ، والأوبتان قدحان ونصف قدح من الكيل المغربيّ. وهذا السعر في بلد لا ضيعة فيه ولا قوام معيشة لأهله الّا بالميرة المجلوبة