اختلاف الآراء واستيلاء صلاح الدين على الشام :
ولما بدأت نواجذ الاختلاف تبدو بين الأمراء في الشام شعر صلاح الدين وهو بمصر أن هذا الفراغ الذي حدث بموت نور الدين يستلزم أن يملأه رجل تجمع القلوب على حبه ، وأن يصل السلسلة المقطوعة بمهلكه وإلّا انفرط العقد كله ، وتصبح الديار فوضى وتفتح أبوابها على مصاريعها لدخول الدخلاء يستصفونها وتصبح بالشقاق الداخلي أبشع صورة مما كانت على عهد أواخر الدولة الأتاكية أخلاف الأتابك ظهير الدين.
واتفق نزول الفرنج بعد وفاة نور الدين على الثغر وقصدهم بانياس فخرج إليهم شمس الدين بن المقدم وراسل الفرنج وخوفهم بقصد صلاح الدين لأرضهم وقال لهم : أنتم تعلمون أن صلاح الدين كان يخاف أن يجتمع بنور الدين ، والآن فقد زال ذلك الخوف وإذا طلبناه إلى بلادكم لا يمتنع ، فعلموا صدقه وصالحوه ، وتكلموا في الهدنة وحصلوا بقطيعة استعجلوها واستطلقوا عدة من أساراهم وتمت المصالحة. وفي تهديد ابن المقدم للفرنج بصلاح الدين أعظم دليل على مكانته في قلوب رجال الدولة وأن الصليبيين عرفوا أنهم ابتلوا بداهية لا يقل عن نور الدين بحسن تدبيره وشجاعته.
بلغ صلاح الدين ما تم بين ابن المقدم والفرنج فأنكره ولم يعجبه ، وكتب إلى جماعة الأعيان كتابا يقوعهم فيه ويلومهم ، ويقول إنه تجهز وخرج وسار أربع مراحل ثم جاءه الخبر بالهدنة المؤذنة بذل الإسلام فعاد إلى مقره. وقد «استصغر أمر أهل الشام وعلم ضعفهم» وقال : «إن استمرت ولاية هؤلاء تفرقت الكلمة المجتمعة ، وضاقت المناهج المتسعة ، وانفردت مصر عن الشام». قال ابن شداد : لما تحقق صلاح الدين وفاة نور الدين وكون ولده طفلا لا ينهض بأعباء الملك ، ولا يستقل بدفع العدو عن البلاد تجهز للخروج الى الشام إذ هو أجلّ بلاد الإسلام. وقد كان صلاح الدين ينوي أن يتولى تربية ابن مخدومه نور الدين وكتب : «إن الوفاء إنما يكون بعد الوفاة ، والمحبة إنما تظهر آثارها عند تكاثر أطماع العداة». ولكن الأمراء في الشام أخذ كل منهم يعمل على شاكلته ، ويريد أن يستأثر بالأمر دونه وهو أحق منهم وأولى.