البناء :
قالوا : إن علم المباني فن من الفنون الجميلة بل هو أحسنها ، إذا قارنا بينه وبين الموسيقى نجد أن كليهما مطرب للإنسان ، فالأول مكوّن من نغمات غير متنافرة منتظمة الأوقات ، والثاني مكوّن من تراكيب وأوضاع غير متنافرة الأجزاء ، يظهر الأول مذببات العدد والأوتار يحملها الهواء إلى الآذان فيطرب بها الإنسان ، ويظهر الثاني الظلّ والضوء والألوان فتراها العين في أتم ما يكون موضوعة بنسب محفوظة ما بين مزخرف وبسيط تظهر عليها المتانة والراحة فتشتاق إليها النفس ، فكلا الفنين جميل غير أن الأول تذهب محاسنه في الهواء وبعد ذهابها لا يشعر بها ، وتبقى محاسن الثاني ما دام لها ظل.
مواد البناء الحجر والتراب والخشب والحديد قد توجد كلها في قطر ولا يوجد إلا بعضها في آخر ، فمصانع بابل تداعت لأن معوّل البانين كان على الآجر لا الحجر ، ومصانع الشام بقيت لأن الحجر فيه كثير مبذول ، وإن كان أقدم ما عرف من آثارنا يرد إلى زهاء ألفي سنة ، وأقدم ما عرف في بابل وأشور ونينوى من الآجر المكتوب يرجع إلى أربعة آلاف سنة. وما عمل عندنا من الخشب والتراب دثر بعد مدة ليست بطويلة من عهد بانيه.
ولقد ظهر أن الشام في القديم لم يكن له طراز خاص في البناء. وكان بناؤه بحسب روح الدولة التي تحكم فيه والأمة التي تتغلب عليه : مصريا أيام الفراعنة ، أشوريا على عهد الأشوريين ، بابليا في أيام بابل ، فارسيا في دور الفرس ، روميا في دولة الروم ، رومانيا في عهد الرومان. ولم يكن للحثيين والإسرائيليين هندسة خاصة ، بل كان الحثيون يقتبسون عن جيرانهم الأشوريين أصول بنائهم ، وليس مما اكتشف منه حتى الآن ما هو خارق للعادة في أشكاله ووضعه بل هو محرف عن الطراز الأشوري تحريفا كثيرا ، وما اكتشف من الصور النصفية وغيرها من عهد الحثيين لا ينم عن ذوق وإبداع على الأكثر. ومصانع الحثيين في الجملة مقتبسة من مصانع الأشوريين والبابليين اقتباسا رديئا لا يخلو من جفاء وسذاجة على ما قال الباحثون. وسار الإسرائيليون في صنع مصانعهم على تقليد الأشوريين والمصريين وقلدوا المصريين في الأكثر لقرب فلسطين من مصر ، ولاستيلاء المصريين زمنا على فلسطين. وكذلك فعل الفينيقيون والكنعانيون.