العرب الرحل في أرجاء البتراء في الجنوب كان من المحظور عليهم أن يزرعوا الحنطة ويغرسوا الأشجار المثمرة ويبنوا البيوت إذ كانوا يعتبرون أن الاحتفاظ بهذه الخيرات يحتاج إلى أن يفادي المرء بحريته. وعرفنا أن الفينيقيين كانوا لا يعنون بالزراعة عنايتهم بالتجارة ، فكانوا يجلبون من الداخل ومن السواحل القريبة منهم ما يلزمهم في غذائهم. حتى إذا جاء العرب وأبدوا ما أبدوا من حب التحضر كان قانونهم من أحيا أرضا مواتا فهي له واطرد ذلك منذ الفتح. واغتبط العرب بما وجدوه من الخصب في هذه الربوع بعد قحولة الحجاز وبواديه المحرقة فقال زياد بن حنظلة في فتح عمر مدينة إيليا من قصيدة :
وألقت إليه الشام أفلاذ بطنها |
|
وعيشا خصيبا ما تعد مآكله |
حتى إذا تربعت أمية في دست الخلافة وأخذ آلهم ورجالهم يقتنون المزارع ، ويبالغون في اتخاذ الغروس والزروع المثمرة المغلة ، جعلوا القرى مستغلات لهم ونزلوها وعنوا بعمرانها ، وتنافسوا في ذلك. فقد ذكر المنبجي أن هشام بن عبد الملك اتخذ المستغلات الكبيرة في أكثر المدن التي في سلطانه ، والخانات والحوانيت والحجر والضياع والمزارع ، وهو أول من اتخذ الضياع لنفسه من العرب ، واشتق أنهارا كثيرة غزيرة ، وهو الذي استخرج النهر الذي فوق الرقة ، وغرس غرسا كثيرا بالجزيرة والشامات ، فبلغت غلته أكثر من خراج مملكته.
ولطالما عني الخلفاء بأن لا تبقى أرض شاغرة لا تستغل ، فقد أنزل معاوية قوما من الفرس في طرابلس ، وكان الرشيد لما انتشر ذاك الطاعون الجارف في فلسطين على عهده وكان ربما أتى على جميع أهل البيت فتخرب أرضوهم وتعطل ، قد وكل بهذه الأرضين من عمرها فكان يتألف الأكرة والمزارعين إليها فصارت ضياعا للخلافة.
وما زالت العناية بتعهد الأرض متوفرة حتى اغتى العرب الذين استغلوا هذه الديار بذكائهم وبعد نظرهم. والعرب كما ـ قال أحد علماء الإفرنج ـ عمال زراعة ورجال براعة ، برعوا في سقي الجنائن واخترعوا النواعير العجيبة بل ووطنوا النباتات والأشجار الإفريقية والآسياوية في أوربا كالنخل والبرتقال والتوت والقطن وقصب السكر والذرة والأرز والحنطة السوداء والزعفران والهندباء