يصبو بالفطرة إلى سماع أوتار تهزه وتطربه. فالموسيقى تجمع الحواس وتنشط لها النفوس ، وبها يجسر الجبان ، ويعطف اللئيم ، ويرقّ الكثيف ، ويلين القاسي ويقوى الضعيف ، ويكف الظالم ، ويعتدل المائل ، فهي مدعاة السرور ، مجلبة الطرب ، مسلاة الحزين ، مفرّجة الكروب ، مهوّنة الخطوب ، عنوان الحياة الداخلية ، مظهر الأخلاق القومية ، مصورة الانفعالات النفسية ، أصدق عامل على التحمس ، أقوى دافع إلى النهوض والتحسس ، معلمة أنفع الدروس الشريفة مذكرة بالمطالب العالية ، فيها يتجلى العقل البشري بإشارات وحركات ، تعمل عملها في الأفئدة والوجدانات.
ولقد ثبت أن العنصر السامي من أكثر العناصر ولوعا بالطرب والخيال ، وقيل : إن الحثيين من أقدم شعوب الشام كانوا أقل عناية بالموسيقى والغناء من جيرانهم البابليين والأشوريين والآراميين ، ومع هذا كان لهم من الغناء ما ابتدعوه بفطرتهم ، ومنه ما أخذوه من مجاوريهم. وكان الآراميون مولعين بالغناء والضرب بالإيقاع على آلات لهم يبوّقون بها ويزمرون، ويطرّبون بها فيطربون ، وهي بالطبع على حالة ابتدائية على مثال الشعوب التي سبقتهم إلى سكنى هذا القطر. ومثل هذا يقال في الفينيقيين الذين اقتبسوا مدنية الفراعنة ، وهم من أصل سامى ، فإنهم كانوا يعرفون الموسيقى ، ومنها ما نقلوه عن المصريين لتمازج مدنية السلائل المصرية بمدنية فينيقية الصغيرة ، وإذ كان للمصريين عناية فائقة في معابدهم بالموسيقى على ما ظهر من تماثيلهم التي مثلت بها الضاربين والمغنين ، تعلم جيرانهم أهل فينيقية بعض هذه العناية ، ولكن على طريقة الاحتذاء لا إبداع فيها ، ويقال ذلك في الكنعانيين والإسرائيليين فقد أولعوا بها وظهرت آثارها في معابدهم وبيعهم ، وأمام أربابهم ومعبوداتهم ، وفي حروبهم وغاراتهم وأعيادهم ومآتمهم واجتماعاتهم ، على ما فهم من نصوص التوراة. ومزامير داود مشهورة مذكورة ، والآلات التي اشتهرت عند الشعوب القديمة وعانت استعمالها ، ترجع في الأكثر إلى شبابة وبوق وصنج وطبل ودف.
ولقد دلت بعض النقوش التي عثر عليها في وادي موسى وجرش وتدمر أن العمالقة والنبط والعرب لم يكونوا أقل من الشعوب التي سبقتهم إلى نزول هذه الديار ولوعا بالتلحين والإيقاع والضرب على القيثار والنفخ بالمزمار ، وقد