بين يديه يتكلم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال (١) : أما بعد ، فإن الله خلق الخلق غنيا عن طاعتهم ، آمنا لمعصيتهم ، والناس يومئذ في المنازل والرأي مختلفون ، والعرب بشرّ تلك المنازل أهل الحجر وأهل الوبر ، وأهل الدّبر ، تحتار دونهم طيبات الدنيا ورخاء عيشها ، لا يسألون الله جماعة ، ولا يتلون كتابا ، ميتهم في النار ، وحيّهم أعمى يحشر مع ما لا يحصى من المرغوب عنه ، والمزهود فيه ، فلما أن أراد الله أن ينشر عليهم رحمته بعث إليهم رسولا من أنفسهم (عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ)(٢) صلى الله عليه ، وعليهالسلام ، ورحمة الله وبركاته ، فلم يمنعهم ذلك أن جرحوه في جسمه ولقبوه في اسمه ومعه كتاب من الله ناطق لا يقدم إلّا بأمره ولا يرحل (٣) إلّا بإذنه ، فلما أمر بالفرقة وحمل على الجهاد ، انبسط لأمر الله ثوبه ، فأفلج الله حجته ، وأجاز كلمته ، وأظهر دعوته ، وفارق الدنيا تقيا نقيا ، ثم قام بعده أبو بكر فسلك سنّته ، وأخذ سبيله ، وارتدّت العرب ، أو من فعل ذلك بهم فأبى أن يقبل منهم بعد رسول الله صلىاللهعليهوسلم إلّا الذي كان قابلا أشرع السيوف من أغمادها وأوقدوا النيران في شعلها ، ثم ركب بأهل الحق أهل الباطل ، فلم يبرح يقطّع أوصالهم ويسقي الأرض دماءهم حتى أدخلهم في الذي خرجوا منه ، وقرّرهم بالذي نفروا عنه ، وقد كان أصاب من مال الله بكرا يرتوي عليه وحبشية أرضعت ولدا له ، فرأى ذلك عند موته غصة في حلقه ، فأدى ذلك إلى الخليفة من بعده ، وفارق الدنيا تقيا نقيا على منهاج صاحبه ، ثم قام بعد عمر بن الخطاب فمصّر الأمصار وخلط الشدة باللين وحسر عن ذراعيه ، وشمّر عن ساقيه ، وأعدّ للأمور أقرانها وللحرب آلتها ، فلما أصابه قين المغيرة بن شعبة أمر ابن عباس يسأل الناس هل يثبتون قاتله ، فلما قيل : قين المغيرة بن شعبة استهلّ بحمد ربه ألّا يكون أصابه ذو حق في الفيء فيحتج عليه بأنه إنّما استحلّ دمه بما استحل من حقّه ، وقد كان أصاب من مال الله بضعة وثمانين ألفا ، فكسر لها رباعة (٤) وكره بها كفالة أولاده ، فأدّاها
__________________
(١) الموعظة في سيرة عمر بن عبد العزيز لابن الجوزي ص ١٦٠ منسوبة لابن الأهتم ، وفي سيرة ابن عبد الحكم ص ٩٥ منسوبة إلى خالد بن صفوان بن الأهتم. وباختلاف بعض التعابير والألفاظ وتقديم وتأخير.
(٢) سورة التوبة ، الآية : ١٢٨.
(٣) كذا بالأصل وم ، وفي المطبوعة : «ولا يرجئ» وفي سيرة ابن عبد الحكم : «ولا يخرج».
(٤) في م : رباعية.