تأثير الوقف في العمران :
رأينا في أيامنا مزارع ومنها البعيد عن المدن ، المتعذر استثماره بحسب العرف ، قد أصبحت حدائق غلبا بفضل توفر مالكيها على تعهدها ، وطول آمالهم في تحسينها ، إرادة أن يستمتعوا بها هم وأولادهم من بعدهم ، ولو كانت من نوع الوقف لخربت وبارت ، ولأعرضوا عن تعهدها كما هو المشاهد في القرية الموقوفة والأرض الموقوفة. ولكم رأينا الداثر الغامر إلى جانب الزاهر العامر. وحالة المسقفات أو العقارات كحالة المستغلات بل أدهى وأمرّ. وكذلك الحال في الأناسي الذين يعيشون من أوقافهم ومن يعيشون من زراعتهم أو صناعتهم أو تجارتهم ، فتجد في الأولين اتكالا مجسما وهمما متراخية ، وفي الآخرين مضاء وعزما وشمما وحسن ثقة بأنفسهم. وعندي أن من وقفوا الأوقاف وحبسوا الأحباس لأبنائهم ومن يجيء بعدهم قد أضروا بهم أكثر مما نفعوهم ، والرزق كالحياة لا طاقة لصغير أو كبير أن يضمنه لنفسه فكيف به لغيره.
كانت الأوقاف نافعة في الصدر الأول لقلتها ، ولأنها محبوسة على وجوه البر وعلى البائسين خاصة. فقد سأل شيخ عاجز من أهل الذمة عمر بن الخطاب شيئا فقال له : ما أنصفناك أخذنا منك الجزية زمن شبابك ، ولم نكفك مؤونة التكفف أيام عجزك ، وأمر له من مال الصدقة بما يكفيه. من أجل هذا كانت الحبس على هذه الغاية الشريفة مما لا يسع عاقلا إنكار نفعه. ولكن الملوك ومن بعدهم من رجال الدول أنشأوا يجعلون من أموال المغارم أوقافا ، وقلما تشاهد المخلص فيما حبس ووقف.
الأوقاف عند قدماء العثمانيين :
كانت تغلب على ملوك بني عثمان في مبدإ أمرهم البداوة والسذاجة والتدين ، ولذلك ملأوا بروسة وأدرنة والاستانة وكوتاهية وازنيق بأوقافهم ومدارسهم ، وكذلك فعل وزراؤهم وكانوا يتناولون أرزاقهم من مقاطعات يقطعهم إياها سلطان الوقت. فلما غلبت عليهم الحضارة وفتحوا مصر والشام في عهد سليم وتكاملت فتوحهم في عهد سليمان ، أصبحوا يتفننون في ضرب