الفقير والزّمن والعاجز عن الكسب ، قد خفف ولا شك من شرور الفاقة بعض الشيء ، وإن كان فيه من جهة أخرى تحبيب التوكل والتواكل إلى الناس. ولم نر في ديارنا ، وتحصيل الرزق فيها أهون منه في أوربا مثلا ، ما نسمع به من ضروب الشقاء الذي يسوق هناك إلى الانتحار وإلى ارتكاب الفظائع. وبعض الأمم المتمدنة اليوم تفكر في قتل العجائز لقلة فائدتهن ، والإبقاء على الكلاب وهذا من أغرب ما سمع. ولم يعهد العرب شيئا من هذا بفضل ما حبسه المتصدقون على ضروب البر ، وإن كان هذا الإفراط في الإفضال على العاجزين عن الكسب ، قد يورث الخمول ويقعد بالهمم عن الكدح.
إلى اليوم لم ينشأ للبشر مجتمع كامل في عامة صفاته ، على كثرة ما جاءه من الشرائع وسنّ لأجله من القوانين ، والسعادة لم يمسسها الناس بأيديهم ، وكأنها محالة الآن. وما ندري إن كانت أسبابها تتم في مستقبل الدهور والعصور ، فلا الوقف وقى الناس من الفقر ، ولا عدمه أفقرهم. هذه القوانين قد تلطف من شرّة الشر ، ولكنها لا تستأصله من جذوره ، لأن لذلك أسبابا أخرى ، ولعله لا يتم المطلوب قبل انقضاء أيام وليال ، وقضاء آجال وأجيال ، والله يحكم لا معقب لحكمه.
تقسيم الأوقاف وإصلاحها (١) :
يقسم الوقف إلى خيري وأهلي ، وينقسم الخيري إلى ديني محض كحبس المساجد والمعابد ، وإلى ديني دنيوي وهو يشمل جميع أنواع الوقوف الخيرية كوقف مدارس العلم ودور الصناعات ورباطات المجاهدين ، وفنادق أبناء السبيل ، ومستشفيات المرضى ، ومقابر الموتى، ونحو ذلك من وسائل الارتفاق العام ، ومثله ما تحبس عينه لينتفع بريعه مصارف الصدقات الشرعية ، سواء أكان الحبس على جميع المساكين أم على فئة مخصوصة منهم.
__________________
(*) اقترحنا على صديقنا الشيخ سعيد الباني أن يكتب لنا رأيه في الأوقاف وطرق إصلاحها فكتب كتابا سماه «الكشاف عن أسرار الأوقاف» فاقتبسنا منه ما هو بمثابة تتمة لما كتبناه في الفصل السابق.