مندوحة في خرق هذه القاعدة ، فتوسع القوم فيها لا سيما ما كان منه أهليا حتى كاد ينقلب الخير إلى شر ، فإن الواقف يقف أملاكه أو شطرا منها لتكون من بعده وسيلة إلى التعاطف بين الذراري والأعقاب ، فما هو إلا جيل أو جيلان حتى تغدو أوقافه ذريعة للتقاطع والتدابر ، فتقوم نائرات الخصومات بين الأسرات ، للاستئثار بإدارة الوقوف واقتسام مغلها ، خصوصا عند كثرة المستحقين وقلة الأنصبة ، وربما تكاثرت ذرية الواقف بعد حتى يصيب الفرد من الدخل بضعة قروش. ولا تسل كيف تكون حال تلك العقارات والأرضين الموقوفة من العمران ، ففي تعدد الموقوف عليهم تعدد للمناحي وتباين في الآراء. وربما استأثر بالوقف فرد واحد يكون أشد المستحقين مراسا ، فيغصب حقوق الآخرين. من أجل هذا ترى الغاصبين وفي مقدمتهم المتولي أو الناظر يقضون حياتهم على دكات المحاكم الشرعية مدافعين ذوي الحقوق بالحق والباطل ، حتى جرى في حكم الأمثال قولهم «نصف الأوقاف موقوفة على الحكام».
شرط الواقف وخراب أوقاف الشام :
بالغ المتأخرون في احترام الأوقاف أهلية كانت أو خيرية حتى قالوا : إن شرط الواقف كنص الشارع ، ولو كان فيما هو ظاهر ضرره ومكروه عند العارفين. وعدت الأوقاف على طول الزمن من أعظم القربات حتى قالوا : إنّ من لم يمت عن وقف مات ميتة جاهلية. وقد ردّ ابن قيم الجوزية قول من قال : إن شرط الواقف كنص الشارع فقال : إن شرط الله أحق وأوثق ، بل يقولون ههنا : نصوص الواقف كنصوص الشارع وهذه جملة من أبطل الكلام ، وليس لنصوص الشارع نظير من كلام غيره أبدا ، بل نصوص الواقف يتطرق إليها التناقض والاختلاف ، ويجب إبطالها إذا خالفت نصوص الشارع وإلغاؤها ، ولا حرمة لها حينئذ البتة. ويجوز بل يترجح مخالفتها إلى ما هو أحب إلى الله ورسوله منها ، وأنفع للواقف والموقوف عليه. وقال علماء الحنفية : إن قولهم شرط الواقف كنص الشارع لا في وجوب العلم به والإثم بتركه ، بل بالاخذ بمفهومه وأنه لا يستحق المعلوم إذا خالفه.