ذكاء فيهم وتجربة أحرزوها فهان عليهم أن يبيعوها مقابل عرض قليل ومظهر ضئيل. التجسس فيهم فطرة والإزراء بالقومية والوطنية من مألوفاتهم ما أساءوا استعمال ما ائتمنوا عليه إلا ليغتنوا بطرق عرفوها ، ويغنوا أبناءهم ولو كان في ذلك هلاك مئات من الناس.
ومنهم أناس كانوا في أخذ المال كالعلقة يمتصون الطاهر وغير الطاهر ثم يفيضون منه على القانع والمعتر ، ويطعمون الطعام ويكسون الأيتام. ومنهم من جمعوا عشرات الألوف ومئات الألوف ولا تجود أنفسهم بدانق لتعليم أطفال الفقراء وإنجاد البائسين وإكساء العراة. وإذا تصفحت جرائد الجمعيات الخيرية التي قامت في العهد الأخير لتعليم اليتامى وإغاثة المحاويج ، لا تسقط فيها إلا نادرا على أسماء بعض أرباب السعة ، بمعنى أن هذه الطبقة كانت أقل الناس في معاونتها. والطبقتان الوسطى والنازلة هما اللتان جمعتا الدرهم فوق الدرهم ، اقتطعتاه من رزق عيالها ، لتطعما به من هم أجوع منها ، وتنشل من السقطة من هم أكثر سقوطا من بنيها.
وفي هذه الديار عشرات من الأغنياء يدمجون في سلك الأعيان يعتزون بأموالهم ، ويضنون بها كل الضنانة ، اللهم إلا إذا كان في صرفها إرضاء شهواتهم ، وتوفير أنواع رفاهيتهم. وإذا أشير إليهم أن يشاركوا في المصالح الوطنية لووا وجوههم ، وهزأوا في باطنهم بهذه الأعمال التافهة ، حتى إذا حلت بهم مصيبة أخذوا يستنجدون ولا ينجدون ، ويطلقون ألسنتهم في رجال كانوا بالأمس يقدسونهم ، وأنّى للأمة أن تعرفهم أيام شقائهم ، وهم لم يتعرفوا إليها أيام سعادتهم. هذا وهم أنصار كل حكومة تسوغهم أكل حقوقها وحقوق الضعاف ، وتطلق أيديهم في ظلم الفلاحين والمغفلين ، وتعاونهم في محاكمها على فض قضاياهم بما يتفق مع رغائبهم ، وتوسد إليهم أمورها المنتجة لهم مالا وجاها.
في هؤلاء الأعيان رجل كان عنده من أدوات الزينة والتبرج ما يساوي المئات من الدنانير ، وربما كان ثمن ربطات رقبته المعمولة من الحرير لا يقل عن ألف جنيه ، لأن عددها كان ألفي ربطة معروضة في قاعة كبيرة ، وكنت إذا أردته على أن يبتاع جريدة ليقرأها شكا إليك ضيق ذات يده ،