أوى العلّامة السّيّد عليّ بن محمّد الحبشيّ إلى فراشه .. ذكر ما النّاس فيه ، فخفّ بلباس النّوم إلى الأستاذ يستشيره في الاستسقاء ، فاهتمّ الأستاذ وبات يلحّ على ربّه في الدّعاء ، فما كاد يبرق الفجر .. إلّا وقد جاءت السّيول ، وامتلأت الحقول ، ثمّ تتابعت حتّى لم يكن انجلاؤها إلّا بعد التّضرّع والابتهال ، فجاء موضع قول البوصيريّ :
... فاع |
|
جب لغيث إقلاعه استسقاء |
فكيف لا تفيض العبرات ، وتتصاعد الزّفرات ، لتلك الوجوه النّاضرة ، والأيّام الزّاهرة ، واللّيالي العاطرة.
أعزّاي ما أبقوا لعيني قرّة |
|
ولا زوّدوا إلّا الحنين المرجّعا (١) |
وكانوا على الأيّام ملهى ومطربا |
|
فقد أصبحوا للقلب مبكى ومجزعا |
فما أطول الرّثا ، ولا سيّما إذ لم يبق إلّا الغثا ، فجاء موضع قول الشّريف الرّضيّ [في «ديوانه» ٢ / ٢٦٢ من السّريع] :
كانوا صفاء الكأس ثمّ انجلوا |
|
من البواقي عن قذى ثافل |
ومن أواخر رثائي لأولئك قولي [من الطّويل] :
فكم في الحشا من موجعات لسادة |
|
مناط الرّجا كانوا فغطّاهم الرّمل |
جبال منيفات من المجد أصبحت |
|
كأن لم تكن لو لا الأحاديث ـ من قبل |
أمرّ لنا العيش الرّغيد فراقهم |
|
وأثقلنا من بعد ما أوحشوا الحمل |
ولو لا اعتصام بالّذي لم يكن لنا |
|
نعيش فواقا بعد ما انقطع الوصل |
ففي كلّ حين يأخذ البين غرّة |
|
تذوب لها أكبادنا ثمّ لا نسلو |
فأين المصابيح الّتي كان للهدى |
|
بها في البلاد الشّأن والشّرف الجزل |
وأين المراجيح المساميح والألى |
|
بغرّاتهم يستدفع الشّرّ والأزل |
__________________
(١) البيتان من الطّويل ، وهما للشريف الرضي في «ديوانه» (١ / ٦٣٩).