ثم ساروا بسعادة السيد من هناك إلى مكان خرط الحديد ، فأخرج العملة (١) قضيبا من حديد محمّى (٢) ، طوله نحو ثلاثة أقدام ، وسمكه نحو أربعة أقدام مربّعة ، وركّبوه على المخرطة حالا ، وصارت الآلة تدور بقوة البخار ، وتخرط القضيب بسرعة تكاد تخطف البصر ، وبسهولة غريبة كأنها تخرط قضيبا من الحطب ، وكانت الشرارات تتطاير منها تطاير البرق من قلب الغمام ، وتملأ الهواء المحيط بها كأنجم تتناثر في ليلة دهماء.
ثم ساروا بسعادة السلطان إلى مخزن المدافع. فشاهد فيها أصنافا كثيرة كبيرة : منها عيار كلته (٣) تسعة طولونات ، مركّب على دواليب عالية. ومنها ما كان عياره ٢٥ طنا. ومنها ما كان عياره (٤) ستة عشر طنا. فتعحب السيد ومن كان معه من تلك الأسلحة المهلكة لبنى آدم التي قد أفرغت فيها العقول الذكية ما عندها من البراعة بحجة التمدن وما ذاك لعمري إلا أقصى درجة من التوحش قد جمّله الطمع البشري برداء التمدن والتقدّم! وكان خيرا لو يفرغ المرء قوى عقله في اختراع أوائل (٥) للعمران ، ويزهد فيما يهلك الإنسان والحيوان. ولكن طبع المرء أقرب إلى الشر من الخير.
فلما نظر السيد ـ أعزه الله ـ إلى تلك المدافع والكلل والقنابر والتوربيد وغيرها من الأسلحة المهلكة (٦) قال متبرءا : " العياذ بالله من شرها وشر الشيطان الرجيم! ولي ثقة بكم ـ يا معشر الإنكليز ـ أن لا تستخدموا هذه الأوائل المهلكة بحجة الغزو والطمع في إهلاك الأبرياء ، وإنما تتخذونها لصيانة الملك وحماية الضعيف ونجاة المظلوم". فلما ترجم كلام سعادة السلطان إلى الحاضرين بالإنكليزي صفقوا بأيديهم علامة السرور وقالوا : " حبّذا! حبّذا! نعم المقال! ".
__________________
(١) ب : العمال
(٢) ب : محميا
(٣) كلته : ساقط في ب ، والكلة (بالضم) هي قذيفة المدفع البعلبكي : المورد ، ص ٨٩٨
(٤) ب : عياره
(٥) ب : آلات
(٦) ب : المرهقة