صا أصغر ولد أبيه وأحبهم إليه ، فلما ملك حيزه أمر بالنظر في العمارات وبناء المدائن والبلدان والهياكل ، وإظهار العجائب كما صنع إخوته وطلب الزيادة في ذلك.
وقال مرهون الهنديّ : صاحب بانة فبنى من حدّ صا إلى حدّ لوبية ، ومراقيه على البحر أعلاما ، وجعل على رؤوس تلك الأعلام مرائي من أخلاط شتى ، فكان منها ما يمنع من دواب البحر وأذاها ، ومنها ما إذا قصدتم عدوّ من الجزائر وأصابها الشمس ، ألقت شعاعا على مراكبهم ، فأحرقتها ، ومنها ما يرى المدائن التي تحاذيهم من عدوة البحر ، وما يعمله أهلها ، ومنها ما ينظر فيها إلى إقليم مصر فيعلم منه ما يخصب ، وما يجدب في كل سنة ، وجعل فيها حمامات تقدمن نفسها ، وجعل مستشرفات ومنتزهات ، وكان ينزل كل يوم منها في موضع بمن يخصه من خدمه وحشمه ، وجعل حواليها بساتين وسرح فيها الطيور المغرّدة ، والوحش المستأمن ، والأنهار المطردة والرياض المونقة ، وجعل شرفات قصوره من حجارة ملوّنة تلمع إذا أصابتها الشمس ، فينشر شعاعها على ما حولها ، ولم يدع شيئا من آلة النعمة والرفاهية إلا استعمله ، فكانت العمارة ممتدّة في رمال رشيد ورمال الإسكندرية إلى برقة ، وكان الرجل يسافر في أرض مصر لا يحتاج إلى زاد لكثرة الفواكه والخيرات ، ولا يسير إلا في ظلال تستره من الشمس ، وعمل في تلك الصحاري قصورا ، وغرس فيها غروسا ، وساق إليها من النيل أنهارا ، فكان يسلك من الجانب الغربيّ إلى حدّ الغرب في عمارة متصلة ، فلما انقرض أولئك القوم بقيت آثارهم في تلك الصحاري ، وخربت تلك المنازل وباد أهلها ، ولا يزال من دخل تلك الصحاري يحكي ما رآه فيها من الآثار والعجائب.
قال مؤلفه رحمهالله : حدّثني الثقة ، عمن دخل مدينة صا ، ومشى في خرابها فإذا هو بلبنة طولها أربعة أشبار ، فتناولها وأخذ يتأملها ، ثم كسرها فإذا فيها سنبلة قدر شبر وافر ، كأنها كما حصدت ، وفركها بيده فخرج منها قمح أبيض ، كبار حبه جدّا في قدر حب اللوبيا ، فأكله كله فلم يجد فيه تغيرا ، ودخل آخر إليها قبيل سنة تسعين وسبعمائة ، وأخذ منها لبنة طولها ذراع ونصف في عرض ذراع ، فكسرها فإذا فيها سنبلة قمح ثخن كل قمحة منها في مقدار ما يكون أكبر من الحمص ، فلم يطق كسره إلا بعد ما رضه بالحجارة رضا ، ووجد بصا : صنم لطيف طول أصبع فاتفق أنه ألقي في خابية ماء فصار خمرا ، وكان ذلك عند رجل من تنيس ، فصلحت حاله من بيعه ذلك الخمر ، فطلبه الأمير الأوحد مستولي تنيس ، وما زال به حتى أخذ الصنم منه.
رمل الغرابي
اعلم أنّ هذا الرمل ممتدّ في الأرض ويسميه بعضهم : الرمل الهبير ، وطوله من وراء جبل طي إلى أن يتصل مشرقا بالبحر ، ويمضي من وراء جبل طي إلى أرض مصر ، ثم إلى