مقاتل ، وكان الذي طلب الفرنج القدس وعسقلان وطبرية وجبلة واللاذقية ، وسائر ما فتحه السلطان صلاح الدين يوسف من الساحل ليرحلوا عن ديار مصر ، فبذل المسلمون لهم سائر ما ذكر من البلاد ، خلا مدينة الكرك والشويك ، فامتنع الفرنج من الصلح ، وقالوا لا بدّ من أخذهم الكرك والشوبك ، ومبلغ ثلثمائة ألف دينار ، عوضا عما خرّبه الملك المعظم عيسى صاحب دمشق من أسوار القدس ، وكان المعظم لما مات أبوه العادل ، واستولى الفرنج على دمياط ، ونازلوا الملك الكامل قبالة المنصورة ، خاف أن يصل منهم في البحر ، من يأخذ القدس ، ويتحصنوا به فأمر بتخريب أسواره ، وكانت أسواره وأبراجه في غاية العظمة والمنعة ، فأتى الهدم على جميعها ما خلا برج داود ، وانتقل أكثر الناس من القدس ، ولم يبق به إلا القليل ، ونقل المعظم ما كان بالقدس من الأسلحة والآلات ، فامتنع المسلمون من إجابة الفرنج إلى ذلك ، وقاتلوهم وعبر جماعة من المسلمين في بحر المحلة إلى الأرض التي عليها الفرنج ، وحفروا مكانا عظيما في النيل ، وكان في قوّة الزيادة ، فركب الماء أكثر تلك الأرض ، وصار حائلا بين الفرنج ومدينة دمياط ، وانحصروا فلم يبق لهم سوى طريق ضيقة ، فأمر السلطان للوقت ، بنصب الجسور عند أشموم طناح ، فعبرت العساكر عليها ، وملكت الطريق التي يسلكها الفرنج إلى دمياط إذا أرادوا الوصول إليها ، فاضطربوا وضاقت عليهم الأرض.
واتفق مع ذلك وصول مرمّة عظيمة للفرنج في البحر حولها عدّة حراقات تحميها ، وقد ملئت كلها بالميرة والأسلحة ، فقاتلهم شواني المسلمين وظفرها الله بهم ، فأخذها المسلمون ، وعند ما علم الفرنج ذلك أيقنوا بالهلاك ، وصار المسلمون يرمونهم بالنشاب ، ويحملون على أطرافهم ، فهدموا حينئذ خيامهم ومجانيقهم ، وألقوا فيها النار ، وهموا بالزحف على المسلمين ومقاتلتهم ليخلصوا إلى دمياط ، فحال بينهم وبين ذلك كثرة الوحل والمياه الراكبة على الأرض ، وخشوا من الإقامة لقلة أقواتهم ، فذلوا وسألوا الأمان على أن يتركوا دمياط للمسلمين ، فاستشار السلطان في ذلك ، فاختلف الناس عليه ، فمنهم من امتنع من تأمين الفرنج ورأى أن يؤخذوا عنوة ، ومنهم من جنح إلى إعطائهم الأمان خوفا ممن وراءهم من الفرنج في الجزائر وغيرها ، ثم اتفقوا على الأمان وأن يعطي كل من الفريقين رهائن ، فتقرّر ذلك في تاسع شهر رجب سنة ثمان عشرة ، وسير الفرنج عشرين ملكا رهنا عند الملك الكامل.
وبعث الملك الكامل بابنه الملك الصالح ، نجم الدين أيوب ، وجماعة من الأمراء إلى الفرنج ، وجلس السلطان مجلسا عظيما لقدوم ملك الفرنج ، وقد وقف إخوته وأهل بيته بين يديه ، وصار في أبهة وناموس مهاب ، وخرج قسوس الفرنج ورهبانهم إلى دمياط ، فسلموها للمسلمين في تاسع عشرة ، وكان يوم تسليمها يوما عظيما وعند ما تسلم المسلمون دمياط ، وصارت بأيديهم ، قدمت نجدة في البحر للفرنج ، فكان من جميل صنع الله ، تأخرها حتى