الآبار العذبة ، ويسقي منها الأشجار وغيرها ، وسرّح في هذا البرج من أصناف القماري (١) والدباسي (٢) والنونيات ، وكل طائر مستحسن حسن الصوت ، فكانت الطير تشرب ، وتغتسل من تلك الأنهار الجارية في البرج ، وجعل فيه أوكارا في قواديس لطيفة ممكنة في جوف الحيطان ، لتفرخ الطيور فيها ، وعارض لها فيه عيدانا ممكنة في جوانبه لتقف عليها إذا تطايرت حتى يجاوب بعضها بعضا بالصياح ، وسرّح في البستان من الطير العجيب كالطواويس ، ودجاج الحبش ، ونحوها شيئا كثيرا.
وعمل في داره مجلسا برواقة سماه بيت الذهب طلى حيطانه كلها بالذهب المجاول باللازورد المعمول في أحسن نقش ، وأظرف تفصيل ، وجعل فيه على مقدار قامة ونصف صورا في حيطانه بارزة من خشب معمول على صورته ، وصور حظاياه ، والمغنيات اللّاتي تغنينه بأحسن تصوير ، وأبهج تزويق ، وجعل على رؤوسهنّ الأكاليل من الذهب الخالص الإبريز الرزين ، والكوادن المرصعة بأصناف الجواهر ، وفي آذانها الأجراس الثقال الوزن ، المحكمة الصنعة ، وهي مسمرة في الحيطان ، ولوّنت أجسامها بأصناف أشباه الثياب من الأصباغ العجيبة.
فكان هذا البيت من أعجب مباني الدنيا وجعل بين يدي هذا البيت فسقية مقدّرة وملأها زئبقا ، وذلك أنه شكا إلى طبيبه كثرة السهر ، فأشار عليه بالتغمير (٣) ، فأنف من ذلك ، وقال : لا أقدر على وضع يد أحد عليّ ، فقال له : تأمر بعمل بركة من زئبق ، فعمل بركة يقال : إنها خمسون ذراعا طولا في خمسين ذراعا عرضا ، وملأها من الزئبق ، فأنفق في ذلك أموالا عظيمة ، وجعل في أركان البركة سككا من الفضة الخالصة ، وجعل في السكك زنانير من حرير محكمة الصنعة في حلق من الفضة ، وعمل فرشا من أدم يحشى بالريح حتى ينتفخ ، فيحكم حينئذ شدّة ، ويلقي على تلك البركة الزئبق ، وتشدّ زنانير الحرير التي في حلق الفضة بسكك الفضة ، وينام على هذا الفرش ، فلا يزال الفرش يرتج ويتحرّك بحركة الزئبق ، ما دام عليه ، وكانت هذه البركة من أعظم ما سمع به من الهمم الملوكية ، فكان يرى لها في الليالي المقمرة منظر عجيب ، إذا تألف نور القمر بنور الزئبق ، ولقد أقام الناس بعد خراب القصر مدّة يحفرون لأخذ الزئبق من شقوق البركة ، وما عرف ملك قط تقدّم خمارويه (٤) في عمل مثل هذه البركة.
__________________
(١) القماري : جمع قمرية ضرب من الحمام.
(٢) الدباسي : جمع دبسية طائر لونه بين السواد والحمرة يقرقر.
(٣) التغميز : النخس باليد.
(٤) خمارويه بن أحمد بن طولون من ملوك الدولة الطولونية بمصر ولد في سامراء سنة ٢٥٠ ه وتملك مصر بعد وفاة أبيه سنة ٢٧٠ ه وقتله غلمانه في دمشق على سريره سنة ٢٨٢ ه ونقل تابوته إلى مصر.
الأعلام ج ٢ / ٣٢٤.