وانتهى أمره بدأ يسترجع منه الدهر ما أعطاه ، فأوّل ما طرقه موت خطيبته بوران التي من أجلها بنى بيت الذهب ، وصوّر فيه صورتها وصورته ، كما تقدّم ، وكان يرى أن الدنيا لا تطيب له إلا بسلامتها وبنظره إليها ، وتمتعه بها فكدّر موتها عيشه ، وانكسر انكسارا بان عليه ، ثم إنه أخذ في تجهيز ابنته ، فجهزها جهازا ضاهى به نعم الخلافة ، فلم يبق خطيرة ولا طرفة من كل لون وجنس إلا حمله معها ، فكان من جملته : دكة أربع قطع من ذهب عليها قبة من ذهب مشبك في كل عين من التشبيك قرط معلق فيه حبة جوهر لا يعرف لها قيمة ، ومائة هون من ذهب.
قال القضاعيّ : وعقد المعتضد النكاح على ابنته ، يعني ابنة خمارويه : قطر الندى ، فحملها أبو الجيش خمارويه مع عبد الله بن الخصاص ، وحمل معها ما لم ير مثله ، ولا يسمع به ، ولما دخل إليه ابن الخصاص يودّعه ، قال له خمارويه : هل بقي بيني وبينك حساب؟ فقال : لا ، فقال : انظر حسابك ، فقال : كسر بقي من الجهاز ، فقال : أحضروه ، فأخرج ربع طومار فيه سبت ذكر النفقة ، فإذا هي أربعمائة ألف دينار ، قال محمد بن عليّ المادرانيّ ، فنظرت في الطومار ، فإذا فيه وألف تكة الثمن عنها عشرة آلاف دينار ، فأطلق له الكل.
قال القضاعيّ : وإنما ذكرت هذا الخبر لتستدل به على أشياء منها سعة نفس أبي الجيش ، ومنها كثرة ما كان يملكه ابن الخصاص حتى أنه قال : كسر بقي من الجهاز ، وهو أربعمائة ألف دينار ، لو لم يقتضه ذلك ، لم يذكره ، ومنها ميسور ذلك الزمان لما طلب فيه ألف تكة من أثمان عشرة دنانير قدر عليها في أيسر وقت ، وبأهون سعي ، ولو طلب اليوم خمسون ، لم يقدر عليها ، قال كاتبه : ولا يعرف اليوم في أسواق القاهرة ومصر تكة بعشرة دنانير ، إذا طلبت توجد في الحال ، ولا بعد شهر ، إلّا أن يتعنى بعملها ، فتعمل ، ولما فرغ خمارويه من جهاز ابنته أمر فبنى لها على رأس كل مرحلة تنزل بها قصر ، فيما بين مصر وبغداد ، وأخرج معها أخاه شيبان بن أحمد بن طولون في جماعة مع ابن الخصاص ، فكانوا يسيرون بها سير الطفل في المهد ، فإذا وافت المنزل وجدت قصرا قد فرش فيه جميع ما يحتاج إليه ، وعلقت فيه الستور ، وأعدّ فيه كل ما يصلح لمثلها في حال الإقامة ، فكانت في مسيرها من مصر إلى بغداد على بعد الشقة ، كأنها في قصر أبيها تنتقل من مجلس إلى مجلس ، حتى قدمت بغداد أوّل المحرّم سنة اثنتين وثمانين ومائتين ، فزفت على الخليفة المعتضد.
وبعد ذلك قتل خمارويه بدمشق ، وكانت مدّة بني طولون بمصر سبعا وثلاثين سنة ، وستة أشهر واثنين وعشرين يوما.
وولي منهم خمسة أمراء أوّلهم : أحمد بن طولون ، ولي مصر من قبل المعتز على