مصر الغربيّ على شاطىء النيل ، لمّا عمّر الملك الصالح نجم الدين أيوب قلعة الروضة ، وصار بمصر عدّة آدار جليلة ، وأسواق ضخمة ، فلما كان غلاء مصر والوباء الكائن في سلطنة الملك العادل : كتبغا سنة ست وتسعين وستمائة خرب كثير من مساكن مصر ، وتراجع الناس بعد ذلك في العمارة إلى سنة تسع وأربعين وسبعمائة ، فحدث الفناء الكبير الذي أقفر منه معظم دور مصر ، وخربت ثم تحايا الناس من بعد الوباء ، وصار ما يحيط بالجامع العتيق ، وما على شط النيل عامرا إلى سنة ست وسبعين وسبعمائة ، فشرقت بلاد مصر ، وحدث الوباء بعد الغلاء ، فخرب كثير من عامر مصر ، ولم يزل يخرب شيئا بعد شيء إلى سنة تسعين وسبعمائة ، فعظم الخراب في خط زقاق القناديل ، وخط النحاسين ، وشرع الناس في هدم دور مصر ، وبيع أنقاضها ، حتى صارت على ما هي عليه الآن ، وتلك القرى أهلكناهم لما ظلموا وجعلنا لمهلكهم موعدا.
ذكر ما قيل في مدينة فسطاط مصر
قال ابن رضوان : والمدينة الكبرى اليوم بأرض مصر ذات أربعة أجزاء : الفسطاط ، والقاهرة ، والجزيرة ، والجيزة ، وبعد هذه المدينة عن خط الاستواء ثلاثون درجة ، والجبل المقطم في شرقيها ، وبينها وبين مقابر المدينة.
وقد قالت الأطباء : إن أردأ المواضع ما كان الجبل في شرقيه يعوق ريح الصبا عنه ، وأعظم أجزائها : هو الفسطاط ، ويلي الفسطاط من الغرب : النيل ، وعلى شط النيل الغربيّ أشجار طوال وقصار ، وأعظم أجزاء الفسطاط : موضع في غور ، فإنه يعلوه من المشرق المقطم ، ومن الجنوب الشرف ، ومن الشمال الموضع العالي من عمل فوق ، أعني الموقف والعسكر وجامع ابن طولون ، ومتى نظرت إلى الفسطاط من الشرق أو من مكان آخر عال : رأيت وضعها في غور. وقد بيّن أبقراط أن المواضع المتسفلة : أسخن من المواضع المرتفعة ، وأردأ هواء لاحتقان البخار فيها ، ولأن ما حولها من المواضع العالية يعوق تحليل الرياح لها ، وأزقة الفسطاط وشوارعها ضيقة ، وأبنيتها عالية ، وقد قال روفس : إذا دخلت مدينة ، فرأيتها ضيقة الأزقة مرتفعة البناء ، فاهرب منها لأنها وبيئة أراد أن البخار لا ينحل منها كما ينبغي لضيق الأزقة وارتفاع البناء.
ومن شأن أهل الفسطاط أن يرموا ما يموت في دورهم من السنانير والكلاب ، ونحوها من الحيوان الذي يخالط الناس في شوارعهم وأزقتهم فتعفن ، وتخالط عفونتها الهواء ، ومن شأنهم أيضا : أن يرموا في النيل الذي يشربون منه فضول حيواناتهم وجيفها ، وخرّارا كنفهم تصب فيه ، وربما انقطع جري الماء ، فيشربون هذه العفونة باختلاطها بالماء ، وفي خلال الفسطاط مستوقدات عظيمة يصعد منها في الهواء دخان مفرط ، وهي أيضا كثيرة الغبار لسخانة أرضها ، حتى أنك ترى الهواء في أيام الصيف كدرا يأخذ بالنفس ، ويتسخ الثوب